"وحل" لـ فرج سليمان: أسئلة مُستمدّة من الأسئلة

11 فبراير 2016
(من العرض، تصوير: حبيب سمعان)
+ الخط -
تساؤلاتٌ كثيرةٌ يُثيرها إعلان عرض "وحل"، الذي قدّمه في حيفا، مؤخّراً، الموسيقي الفلسطيني فرج سليمان وسيقدّمه في رام الله مجدّداً في العشرين من الشهر الجاري. جاء في الإعلان: "عمل فني مختلف يتعمّق في "وحل" الوطن العربي اليوم". ما هو "المختلف"؟ وعن ماذا يختلف؟ وإن افترضنا أنّ هناك "مختلفاً"، إذن يتوجّب أن تكون هناك قاعدة ما، تطرح أسساً ومتّفقاتٍ سائدة.

فهل سيكسر هذا العرض تلك الأسس، ليخلق حفلاً موسيقياً جديداً مثلما فعل الموسيقار الهولندي أندريه ريو، حين حول الكونسيرت الكلاسيكي إلى حفل يغني ويرقص فيه الجمهور والعازفون، متحدّياً أصول تفاعل الجمهور مع الموسيقى، وتصرّف قائد الاوركسترا على المسرح؟ كما أنّنا نتساءل أيضاً: ما هو هذا "الوحل"؟ هل هو ما خلّفه "الربيع العربي" بثوراته وآماله ونكساته؟

لعل جزءاً من حضور "وحل" في حيفا كان في باله أن يجد إجاباتٍ عن هذه الأسئلة. في العرض الذي أخرجه نزار الزعبي، لا يتوسّط بيانو سليمان خشبة مسرح خالية، ولم تصحبه أوركسترا، بل كان الأمر كالآتي: على الجهة اليُمنى من الخشبة، ثمة سرير فيه طفلة نائمة، تطمئنّ إليها أمّها، وتحيطها جوقة من أربع نساء (رنا خوري ومنى حوا وميساء ضو وريهام خوري) يتّشحن بالسواد، تصدح أصواتهنّ ممزوجة مع الألحان والمؤثرات الصوتية الخارجة من البيانو.

على الجهة اليُسرى، يتشبّث بيانو أسود بأرضه، ويجلس أمامه ملحّن العمل، الموسيقي فرج سليمان. أما وسط الخشبة، فيبقى خالياً، إلى أن تنكشف في عمق المسرح شاشة، شفافة تقريباً؛ تُذكّر بشاشات الهواتف المحمولة أو التلفاز، التي سرعان ما يدور خلفها شريط إخباري عن حياة الإنسان العربي في هذه الرقعة من العالم.

مجموعة من الممثلين يظهرون خلف الشاشة، ويتحرّكون من يسار إلى يمين المسرح، من كواليس إلى كواليس أخرى يختفون؛ كأنهم على شريط مطّاطي.

يخرجون أفراداً أو أزواجاً أو مجموعاتٍ، واحدة تلو الأخرى، نرى من خلالها أحداثاً "ماكروكوسمية"، سبق أن شاهدناها في نشرات الأخبار اليومية؛ فباتت جزءاً من الذاكرة الجماعية. كما نرى، أيضاً، أحداثاً "ماكروكوسمية" أخرى، كصور ثابتة أو لوحات متحرّكة في حياة الفرد/ الإنسان العربي اليوم، تعبّر عن الأفعال الروتينية، مُجَزّئةً لحظات من حياته اليومية إلى تفاصيل وشظايا تُضَخَّم وكأنها تحت عدسة المجهر.

لم يكن استعمال سيلمان للبيانو مألوفاً؛ فتارةً يعزف بأصابعه، أحياناً يدقّ خشب البيانو، أو ينقر الأوتار من داخل صندوقه؛ ما يبعث أصواتاً تخلق أجواءً خاصة، تضفي صبغة مختلفة على العمل.

هكذا، لم يعد البيانو آلةً تُصدر ألحاناً وتناغماً يحاكيان النفس والمشاعر فحسب، بل تحوّل إلى آلة متعددة الوظائف؛ مرّة نسمع مقطوعة منسجمة ومتجانسة، وفي أخرى نسمع "كورد" فيه ديسونانس (غير متجانس- قد يُسمع كنشاز مُوَّظف)، وتارةً يدخلنا في دوامة إيقاعية ذات تصاعد درامي تؤجّجه أصوات النساء الأربع حين ينطقن النص الوحيد في العرض، فتلفظ "آه"، أو "آآآآه" مطوّلة، أو "آه آه آه" مُقطّعة، لتبدو وكأنّها أنين أو مارش عسكري أو طبول جنازة... إلخ.

إلى جانب ذلك، لم يُقدّم العمل مقطوعات موسيقية بالشكل الكلاسيكي؛ إذ لم تتصاعد الموسيقى، في عدّة مقاطع، دراميّاً مع الأحداث، أو لم تترجم الحدث كما قد يتوقّع المُستمع؛ ما خلق مفارقةً بين المرئي والمسموع.

بالنسبة إلى الحبكة، استطاعت الطفلة أن تصوّر فكرة العرض بأداءٍ لافت؛ حيث سحبت أمّها في مسار يرسم خيوط قصة تدور أحداثها في ظل أجواء تنعدم فيها الإنسانية. ففي كل مرّة تظهر، تدفع المتفرّج إلى التساؤل: هل تعي ما يجري من حولها؟ هل هي بأمان؟ هل من يحميها؟ خصوصاً أنّ هاجسها فقط هو اللعب، من دون أن تُدرك كل هذه الوحشية.

ربّما، قد تكون النهاية هي الحلقة الاضعف في الحبكة؛ لأن ما بني حتى اللحظة كان أشد وقعاً من الصورة الأخيرة؛ حيث تفزع الطفلة من كابوس وملاك الموت ينظر إليها.

هكذا، استطاع مخرج العرض، نزار الزعبي، أن يُترجم عملاً موسيقيّاً إلى سينوغرافيا مسرحية، مُجازِفاً في موضوعٍ يقوم على تشريح مأساة الإنسان العربي، من دون أن ينفّر الجمهور. استطاع المخرج أن يرفع الراهن من كونه مجرّد خبر عاجلٍ، إلى مسألة متعدّدة الأبعاد والطبقات.

هذا ما نُلاحظه أيضاً في عمله على الأسلوب الحركي؛ حيث اعتمد الأخير على جوقة حركية ومشاهد تتكرّر وتتطوّر؛ إذ يُضاف، كلّ مرّة، عنصر جديد، أو تغيير ما. أسلوب مألوفٌ في تصميم الرقص الحديث، اعتمده كل من بينا باوش وأكرم خان، وغيرهما؛ وهو تطوير لحيّز الجوقة من المسرح اليوناني القديم.

لم يأتِ "وحل" ليطربنا موسيقيّاً، وإنما ليزعج سباتنا ورفاهيتنا، ولدفعنا باتجاه مساءلة أنفسنا وإعادة صياغة ثوابتنا الفردية والاجتماعية والجماعية والسياسية والفنية وحتى الإنسانية.

______________
موسيقى وجوقة وحدث
لم تقتصر "بطولة" عرض "وحل" على البيانو وعازفه فحسب، بل تقاسمها معه كل من اعتلى الخشبة. للحظات، كان صوت الآلة يختفي داخل وتيرة "مونوتونية" مشحونة، ثم يعود ليظهر بلحن مفاجئ. جاءت الموسيقى كأنّها مقطوعةٌ تصويريّة لعملٍ حيّ؛ فما إن يُغمض المتفرّج عينيه، ليستمع إلى الموسيقى، ستخونه عيناه، لتنفتحا، وتبحثا عمّا يحدث وراء هذه الأصوات. هكذا، تضافرت الجوقة الصوتية والموسيقى والحدث في حبكة واحدة.

المساهمون