29 سبتمبر 2017
"واحة الغروب".. واحة الإبداع
لو أن مخرجة مسلسل "واحة الغروب"، كاملة أبو ذكري، كانت أمينة للنهاية، كما جاءت في رواية الكاتب بهاء طاهر، وجعلت انتحار المأمور، الشخصية الرئيسية، في المعبد المقدس، بدلاً من قسم الشرطة، رمزاً للسلطة، أي سلطة في أي مكان أو أي زمان، لما كان للمسلسل المعنى الساحر الذي جعل اقتباس الرواية في عمل بصري روائي إبداعاً حقيقياً من مخرجة قادمةٍ من السينما، لغةً ورؤيةً، إلى الدراما التلفزيونية التي تخضع، في معظمها، إلى شروط إنتاجٍ تقتل، في أحيان كثيرة، مفاصل العمل البصري لمصلحة الحدوثة الإجتماعية، وتثير كل من هبّ ودبّ ليصبح ناقداً لا يريد أن يخدش العمل البصري روايته التي قرأها وفسّرها كما يحلو له.
يحيلنا المسلسل الأخّاذ إلى نقاشاتٍ لها تاريخ طويل، منذ اختراع السينما، لم تصل إلى حلّ، أو إلى تقديم رؤيةٍ تحظى بالإجماع حول نقل عمل روائي الى الشاشة. ولطالما ركّز النقاد فيما يخصّ نقل الرواية إلى الفيلم أو المسلسل على الإخلاص للرواية وأحداثها، كما سردها كاتب الرواية، وليس على الرؤية الفنية الوليدة. ويناقش هؤلاء أفكاراً مثل ماذا ترك المخرج من الرواية، ولماذا وماذا تغير في العمل الفني عمّا جاء في النص، وليس ما هو موجودٌ أمام أبصارنا، ومحاولة النظر إلى عناصر العمل الفني في الفيلم أو المسلسل، وهي عناصر متشعبة، مثل الصورة وبناء المشهد بصرياً، والأداء الذي تقدّمه شخصيات العمل الوليد من رحم النص والموسيقى، ومن المونتاج الذي يحمل الأفكار، ويربط الأحداث ويبني العلاقات بين الشخصيات داخل الزمان والمكان، واستخدامات الضوء الاصطناعي والضوء الطبيعي والبيئة الجغرافية وتأثيرها على حركة الممثلين الداخلية. يميل هؤلاء النقاد إلى طرح الأسئلة المملة بشأن ماذا تبقى من النص المكتوب، وما الذي أُعيد إنتاجه بصريا، وملاءمة ذلك كله مع خيالاتهم النابعة من الرواية، والتي لا تكون بالضرورة ملائمةً لخيالات المخرج القارئ الخاص للعمل.
أثار موضوع علاقة الرواية بالسينما والدراما التلفزية نقاشات كثيرة، غير أنه، في اللحظة التي يوافق الكاتب على تحويل روايته إلى عمل درامي بصري، تنتهي الرواية كما قرأها القارئ، لتصبح عملاً جديداً، تكتبه الكاميرا، بكل الفريق العامل في هذا العمل. ومن هنا، يصير الحكم على ما هو أمامنا، وليس على ما كان في النص المكتوب. هنا، يحدث فراقٌ أبديٌّ، وتتحوّل الكلمات المكتوبة إلى رؤى جديدة، تُرى بالعين والعقل والروح.
من هنا، يجب النظر إلى مسلسل "واحة الغروب"، وتناول عناصره الفنية المتعدّدة التي جعلته بحق خطوةً جديدةً في مسيرة مخرجته، ومسيرة الدراما المصرية والعربية. نحن أمام صورة نادرة في الدراما العربية، من حيث سحرها ومعناها وجودتها. وأمام بطء جميل وليس معيباً، فالشخصيات التي تتحرّك في الصحراء لا بد من أن تؤثر فيها طبيعة الصحراء التي تستدعي التأمل العميق. وتتطلب الظروف التاريخية التي تدور فيها الأحداث في نهاية القرن التاسع عشر، ونحر الثورة العرابية الوطنية، وحالة اليأس المطبقة على الشعب المصري، مثل هذا التأمل الذي تفرضه الظروف الخاصة. ربما هناك مشكلاتٌ في الصوت وميكساج الصوت والموسيقى، لكن في الوسع القول إن هذا عمل إبداعي خلّاب، في جميع مكوناته الفنية، فنحن أمام طاقات هائلة في الإخراج، وفي الكتابة الدرامية التي ربطت الماضي بالحاضر، وفي التصوير الذي سخّر المكان لرؤيته، وفي أداء جميع الممثلين في الأدوار كافة.
قال المخرج السينمائي، دي دبليو غريفيث، في العام 1913: هدفي ومهمتي، في المقام الأول، أن أجعلك ترى. وقبل ذلك بحوالي 16 عاماً، قال الروائي جوزيف كونراد: وظيفتي، أنا الكاتب، من خلال قوة الكلمة المكتوبة، أن أجعلك تسمع وتحسّ، وقبل كل شيء أن أجعلك ترى.