15 اغسطس 2020
+ الخط -

أصبحت قصة تشارلز مانسون (1934 - 2017) أسطورة تتناولها الكتب والمسلسلات وأفلام هوليوود على مدى الأعوام الـ 50 الماضية، حتى اختلط على الناس الحقيقي فيها بالخيالي. منذ شهور، أعلنت شركة "إيبكس" عن سلسلتها الوثائقية الجديدة "هيلتر سكيلتر... أسطورة أميركية"، التي تتناول فيها المخرجة ليزلي تشيلكوت قصة مانسون والعائلة التي اتبعت أفكاره المجنونة أواخر ستينيات القرن الماضي، وأدت في النهاية إلى عدد من جرائم القتل المروعة، كان من أبرز ضحاياها الممثلة الأميركية شارون تيت، زوجة المخرج رومان بولانسكي.

رافق الحملة الدعائية للسلسلة الوثائقية المكونة من ست حلقات شعار يقول: "انس كل ما تعرفه عن حياة مانسون، هنا الحقيقة كاملة". لكن يبدو أن صناع الوثائقي لم ينجحوا في إضافة أي جديد إلى القصة التي يعرفها الجميع، إلا حشد الساعات الست بكنز من الوثائق واللقطات الأرشيفية القديمة، ما دفع بعض النقاد إلى رفع شعار: "انس كل ما سمعته عن أن الوثائقي سيكشف أي حقائق جديدة عن مانسون"!

 كان من المفترض عرض Helter Skelter.. An American Myth في شهر يونيو/حزيران الماضي، ولكن ارتأت الشركة المنتجة تأجيل العرض شهراً إضافياً، بعد الاحتجاجات التي تفجرت في الولايات الأميركية إثر مقتل جورج فلويد في 25 مايو/أيار الماضي. ومنذ بث الحلقة الأولى من الوثائقي في الأسبوع الأخير من يوليو/تموز الماضي، بدا واضحاً أن المخرجة ليزلي تشيلكوت قررت أن تنتهج طريقاً أكثر تورطاً في الأحداث التي ترويها عن غيرها من الكتاب والصحافيين والسينمائيين، الذين تناولوا ظاهرة مانسون منذ الستينيات، حتى أنها لم تجد حرجاً في تقديم مانسون باعتباره رجلاً "ارتكب جرائمه بسبب تعطشه للشهرة"، مبررة ذلك في فيلمها بالقول إن مانسون وعائلته كانوا نتاج لحظة من الاضطراب الثقافي الأميركي العام، والتقاطع المأساوي لمثالية الثقافة المضادة والفشل العسكري لأميركا في فيتنام.

في وقت مبكر من صباح 9 أغسطس/آب عام 1969، قتل أتباع تشارلز مانسون خمسة أشخاص بوحشية في عقار في بيفرلي هيلز، وكان من بين الضحايا الممثلة الأميركية شارون تيت، زوجة المخرج السينمائي الشهير رومان بولانسكي، وكانت وقتها حاملاً في شهرها الثامن ولم تتخط الـ 26 من عمرها بعد، وقتل معها أربعة من ضيوفها. في الليلة التالية، وفي محاولة يائسة لجعل الجولة الأولى من جرائم القتل تبدو وكأنها جزء من حرب عرقية، أمر مانسون أتباعه بالعثور على عنوان مختلف في وسط لوس أنجليس، وهناك تم قتل الزوجين لينو وروزماري لابيانكا.

في 25 يناير/ كانون الثاني عام 1971، أدين تشارلز مانسون وعدد من أتباعه، وحكم عليهم بالإعدام، ولكن تغيرت هذه الأحكام إلى السجن المؤبد لاحقاً، بعد أن حظرت ولاية كاليفورنيا عقوبة الإعدام مؤقتاً عام 1972. في ذلك الوقت، قال ممثلو الادعاء إن مانسون الذي أراد أن يكون نجماً في عالم موسيقى الروك أمر بقتل تيت وضيوفها، لأن المالك السابق للمنزل الذي حدثت فيه جرائم القتل، المنتج الموسيقي تيري ميلشر، رفض إنتاج أغنيات لمانسون. إلا أن المدعي العام في القضية،فنسنت بوغليوسي الذي كتب أكثر الكتب مبيعاً عن قضية مانسون عام 1974، عارض ذلك مؤكداً أن مانسون كان مهووساً بـ"الألبوم الأبيض" لفرقة "ذا بيتلز"، واعتقد أن رسالته هي أن يبدأ حرباً عرقية من خلال توريط السود في ارتكاب جرائم ضد الأثرياء البيض، وأطلق مانسون على هذه الحرب العرقية اسم "هيلتر سكيلتر Helter Skelter، وهو عنوان إحدى أغنيات "بيتلز".

ظل تشارلز مانسون سجيناً حتى وفاته عام 2017 عن 83 عاماً. 

احتشدت الحلقة الأولى من Helter Skelter بعشرات اللقطات الأرشيفية والصور والتسجيلات الصوتية التي يعرض بعضها للمرة الأولى، ومنها لقاء صوتي مطول مع الممثل بوبي بوسوليل الذي انضم لاحقاً إلى عائلة مانسون، كما تخللت اللقطات الأرشيفية إعادة تمثيل باهتة بها الكثير من التكلف، حاول من خلالها صناع الوثائقي سد الثغرات الغامضة في تراتبية القصة وجرائم القتل. كذلك، تضمنت الحلقة الأولى لقاءات مع ثلاث نساء من أفراد عائلة مانسون، وهن: ديانا لايك وكاترين شير وستيفاني شارم، والثلاث من بين الأقل مشاركة في جرائم العائلة، ولديهن أقل خبرة ممكنة بما حدث، إلى جوار لقاءات أخرى حاول من خلالها الوثائقي الغوص في تطلعات مانسون الموسيقية، ومنها لقاءات مع المؤلف إيفور دافيس وكاتب الأغاني غريغ جاكوبسون والمغني جوني إكولس وغيرهم، إلى جوار تغطية أرشيفية مفصلة حول جريمة قتل شارون تيت، وقصاصات الصحف التي تناولت تطورات القضية.

أما الحلقة الثانية فتغوص في طفولة ونشأة تشارلز مانسون، ولكن عندما يعود التسلسل الزمني إلى جرائم القتل، تتكرر مجمل المعلومات التي تضمنتها الحلقة الأولى من جديد، والمدهش أن مخرجة الفيلم لم تبذل أي جهد في إظهار تعاطفها تجاه ضحايا القتل، على الرغم من الجهد الكبير المبذول في ترتيب المادة الأرشيفية حول كل ما كتب وقيل عن المحاكمات التي تحولت آنذاك إلى قضية رأي عام.

في مقابل ذلك، نجد أن الوثائقي يناقش السيطرة الكبيرة التي امتلكها مانسون على فتيات العائلة اللواتي نفذن جرائم القتل البشعة تلبية لأوامره، خاصة أن أكثرهن كن في سن المراهقة حين هربن من منازلهن بسبب العنف الذي مورس عليهن من قبل الأهل، وهنا يقع الوثائقي في فخ التعاطف مع فتيات عائلة مانسون أكثر من تعاطف صناعه مع ضحايا جرائم القتل المروعة.

على مدى الحلقتين الأوليين، انشغل الوثائقي في مناقشة "الطبيعة مقابل التنشئة" في حالة تشارلز مانسون. وبحسب تعبير أحد معارف مانسون القدماء الذي يقول صراحة إن مانسون لم يولد شريراً، بل يعتبر، ومعه صناع الوثائقي، أن الطفولة غير المستقرة التي عاشها، وقضاءه أغلب سنوات عمره في السجون والمصحات النفسية، هي التي صنعت منه الوحش الذي كان عليه، وكأن تشارلز مانسون ضحية مجتمع بأسره، لذلك يقدمه الوثائقي باعتباره أسطورة ما يزال لها مريدون يؤمنون بجنون مانسون الدموي.

يتضح هذا بشكل كبير حين لجأ صناع العمل إلى استخدام موسيقى وأغنيات مانسون بشكل متكرر، مصحوبة أحياناً بإعادة تمثيل ركيكة، تقدم للمشاهد الصورة النرجسية التي مارسها الرجل على ضحاياه من الفتيات القاصرات، واللواتي، على الرغم من كل شيء، ما زلن يتحدثن عن الرجل بإعجاب مثير للاهتمام.

يتفق العديد من المحللين النفسانيين أن تشارلز مانسون كان عنصرياً منذ بدايته في عالم الجريمة، إلى أن بدأ في تشكيل جماعته التي اتبعت أفكاره المنتقاة بشكل أساسي من علم السيانتولوجيا أواخر الستينيات، فقد كان مانسون طوال حياته من أنصار تفوق العرق الأبيض، حتى أن جيف غوين، مؤلف كتاب "مانسون: حياة تشارلز مانسون وأوقاته"، أشار في كتابه أكثر من مرة إلى أن مانسون كان رائداً لحركة يمينية متشددة، وأنه كان النواة الأولى التي خرجت من رحمها الأحزاب اليمينية المتطرفة في العالم أجمع في ما بعد، فلم تكن أفكار مانسون حول "الحرب العرقية" مجرد فوضى وعنف يتغذى على المخدرات، كما حاول الوثائقي أن يظهر في ساعاته الست، بل الحقيقة أن مانسون اعتقد طويلاً أن السود في أميركا ما هم إلا همج متوحشون، وأنهم سيبدؤون حرباً ضد البيض، وسينتصرون، لكنهم لن يستطيعوا حكم أنفسهم، وعندها يخرج إليهم هو الذي كان قد أوهم أتباعه حينها أنه المخلص الجديد للبشرية، ليحكم العالم.

كانت هذه هي الرؤية الكاملة لـHelter Skelter، والسبب الحقيقي الذي دفع أتباع مانسون لإظهار جرائمهم، وكأن من ارتكبها هم جماعة من "الفهود السود"، ذلك لأن مانسون آمن حينها أن عليه أن يبدأ هو الحرب نيابة عن السود، وكانت جرائم القتل هي هدفه الأول لتحقيق حلمه المجنون بالسيطرة على العالم.

المساهمون