يصعب جداً أن تجد في سِير الأحزاب السياسية، العربية على الأقل، ما يشبه سيرة حزب "نداء تونس"، الحزب الحاكم منذ انتخابات عام 2014 التي قادت إلى ترؤسه البرلمان والحكومة والرئاسة. ولعل ما شهده هذا الحزب على مدى العامين الأخيرين من تطورات متلاحقة وانتكاسات متتالية وانقسامات عاصفة، كان يُفترض أن تقضي على هذا الحزب نهائياً، أو أن تجعله في أحسن الحالات، يتقهقر إلى المراتب الخلفية للمشهد السياسي في تونس. ولكن العكس هو الذي يحصل، إذ لا يزال يتصدّر كل الأحزاب وفي كل عمليات سبر الآراء التي تنجزها مؤسسات مختلفة، بالنسبة إلى الانتخابات المحلية المقبلة في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الحالي، أو بالنسبة لنوايا التصويت في الانتخابات الرئاسية والتشريعية المزمع إنجازها في 2019. تدفع هذه المفارقة إلى محاولة فهم هذه السيرة الغريبة على المنطق السياسي، إذ قادت مشاكل، أقل مما تعرض إليها "النداء" بكثير، إلى انقراض أحزاب أخرى واندثارها من المشهد السياسي التونسي تماماً، فلماذا لا تصح القاعدة مع حزب "نداء تونس"؟ وما الذي يجعله خارج المنطق السياسي للأحداث؟ وما هي الأسباب التي تجعله يتصدر المشهد باستمرار؟ لمحاولة تفكيك هذه الأسئلة، تنبغي العودة إلى مبررات تأسيس هذا الحزب وظروف نشأته واستعراض جملة الأحداث التي تعرض لها خلال السنوات الثلاث الماضية، وفهم وضعه الحالي وما يشهده من أحداث متناقضة، بين الانقسامات من جهة، وانضمام شخصيات جديدة إليه من جهة أخرى.
وكشفت التسريبات عن مواقف مهمة لقيادات بارزة في الحزب، من بينها مديره حافظ قائد السبسي ونواب مهمون في البرلمان بشأن رئيس الحكومة يوسف الشاهد وبعض مستشاريه ووزرائه وعلاقات الحزب ببقية الأحزاب المتحالفة في الحكومة، من بينها "النهضة" و"آفاق"، وعكست هشاشة هذه التحالفات المبنية على "النفاق" مثلما ورد في التسجيل. على الرغم من ذلك برز الحزب في صورة أقوى، ما دفع مؤسسه الباجي قائد السبسي إلى اعتبار أن الحزب بدأ يتعافى ويخرج من الوضع الصعب الذي شهده منذ فترة.
وخرجت النائبة المجمّدة عضويتها، ليلى الشتاوي، لتوجّه سيلاً من الاتهامات الخطيرة للسبسي الابن وللحزب. كما وجّه أحد مؤسسي الحزب، لزهر العكرمي، اتهامات خطيرة لرئيس كتلة الحزب في البرلمان، سفيان طوبال، بتلقيه أموالاً من خارج الحزب، ورافق ذلك مسلسل من الاتهامات المتبادلة، أصبحت تقريباً الخبز اليومي لبعض عناصر هذا الحزب. واستمع التونسيون على مدى أيام في البرامج الإذاعية والتلفزيونية لشهادات تعكس حالة الوهن التي يعرفها الحزب من الداخل، وتداخل المصالح والعلاقات السياسية بالمنفعية، وسط اندهاش بعض مؤسسيه وكوادره العليا. وكان الحزب شهد أولاً انفجاراً كبيراً بخروج أكثر من عشرين نائباً من كتلته وتأسيسهم كتلة جديدة انضمت في ما بعد للحزب الذي قام على أنقاض "النداء"، "مشروع تونس". ثم شهد موجة جديدة من الاستقالات وتأسيس "هيئة تصحيحية وتسييرية" حاولت أن تستحوذ على الحزب وتمسك بمقاليده، ولكنها فشلت في ذلك وانضمت إلى الجبهة المعارضة الجديدة "جبهة الإنقاذ" التي يقودها أحد أبناء الحزب السابقين، محسن مرزوق، الذي شغل منصب مدير الديوان الرئاسي السابق للسبسي ومهندس حملته الانتخابية، بالإضافة إلى خروج عدد آخر من قياداته المناطقية والمركزية.
وعلى الرغم من ذلك كلّه، يبقى الحزب في صدارة الأحزاب والشخصيات التي تستحوذ على نوايا تصويت التونسيين، وإن يتراجع أحياناً بسبب بعض الأحداث ومزاج المستجوبين، إلا أنه يبقى الأول، أمام أحزاب منضبطة ومنظّمة ومهيكلة وتاريخية، أنجزت العديد من المؤتمرات وجدّدت قياداتها العليا والوسطى، في حين أن "النداء" لم يتوصل بعد إلى عقد مؤتمره الأول، بسبب حرب المواقع وصراع الزعامات والسعي إلى الاستحواذ على الحزب.
وقد توجد الإجابة في ظروف تأسيس الحزب، الذي قام أساساً على فكرتين رئيسيتين: الدعوة للمحافظة على الحداثة التونسية، واسترجاع فكرة الدولة. وجاءت هذه الدعوة إبان ما شهدته تونس أواخر عامي 2012 و2013 في ظل حكم الترويكا (النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي) وعلى الرغم من أنها شملت حزبين حداثيين، لكن تلك الفترة شهدت بروز خطابات دينية رافقتها زلات وخيارات سياسية كبيرة وصَّفت المشهد وكأنه تهديد للتراجع عن نمط عيش التونسيين، ولم ينجح لا "المؤتمر" ولا "التكتل" في دفع تلك التهمة.
ولكن العامل الرئيس لا يتعلق بشكل الخطاب وإنما يرتبط أساساً بما شهدته سنوات ما بعد الثورة الأولى من تراجع لمفهوم الدولة وتفكيك المؤسسات وفوضى المطلبية، رافقها اغتيال الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، وبروز عامل جديد في حياة التونسيين: الاٍرهاب بذرائع دينية.
ومع كل هذه العوامل، يُضاف الخوف الذي جمع عشرات وربما مئات الآلاف الذين ارتبطوا بشكل مباشر أو غير مباشر بدولة ما قبل الثورة، ليس سياسياً فحسب وإنما إدارياً أيضاً، وكانوا يبحثون عن إطار سياسي يحميهم من جهة، ولكنه يحفظ في ذات الوقت منطق "هيبة الدولة". وكانوا يبحثون عن إطار سياسي جديد بدليل أنهم لم يصوّتوا لكل مشتقات حزب "التجمّع" المنحل، ما قد يعكس رغبة حقيقية في بلد يحافظ على منطق الدولة ولكنه يستجيب لمواصفاتها الجديدة ما بعد الثورة.
وينتمي هؤلاء في الغالب إلى الطبقة الوسطى التونسية التي تمثّل عمود الحياة الاقتصادية والاجتماعية في تونس، وتمثّل الشريحة الأكثر فعالية في الانتخابات والحياة السياسية غير المباشرة، تضاف إليهم شريحة رجال الأعمال الذين تراجعت مداخيلهم بشكل لافت في تلك السنوات، وهددتهم الملاحقات. ونجح السبسي في تلك اللحظة الدقيقة في فهم كل تلك العوامل المتداخلة والتقط ذلك الطلب الجماعي، وصاغه في خطاب سياسي قام بالأساس على فشل منافسيه الذين لم ينجحوا في بعث رسائل طمأنة لكل تلك الشرائح، والتفريق بين الفاسدين والمتورطين، وعموم الموظفين والمواطنين الخاضعين للخوف، ولم تفلح المحاولات المتأخرة لأحزاب الترويكا في تعديل خطابها، واستمالة هؤلاء.