"ناقة الله" وشتات الطوارق: الكوني بعيداً عن الأساطير

27 سبتمبر 2015
الروائي الليبي إبراهيم الكوني
+ الخط -

رغم اشتغاله المتواصل في السنوات الأخيرة على تدوين سيرته الذاتية "عدوس السُّـرَى" التي أصدر منها ثلاثة أجزاء إلى الآن، أصدر الروائي الليبي إبراهيم الكوني (1948) رواية جديدة عنوانها "ناقة الله" (دار سؤال) في بيروت.

لم يرتحل صاحب "المجوس" بعيداً هذه المرة في الصحاري الأسطورية من ناحية الزمن، بل اقترب أكثر وأكثر من المدينة ومن زماننا، حيث تناولت روايته الجديدة حقبة مفصلية عاشتها قبائل الطوارق في الستينيات من القرن العشرين، أثّرت على أوضاعهم وتسبّبت في تشتيتهم إلى مجموعات، كل حزمة منها في بلد.

الشخصية المحورية في الرواية هي الناقة، وليست هذه هي المرة الأولى التي تعطى البطولة لحيوان في عمل للكوني، فقد كان الجمل الأبلق محور روايته "التبر" (1990)، وهي الأخرى تقدّم فكرة الشتات الذي لحق بالطوارق، حيث يتم فسخ الأبلق من أطرافه إلى أربع اتجاهات: الجزائر ومالي وليبيا والنيجر، وهي الدول التي تتوزّع بينها حالياً قبائل الطوارق.

جعل صاحب رباعية "الخسوف" الناقة بطلاً يحيلنا تلقائياً، إلى أهمية المرأة ودورها القيادي في مجتمع الطوارق، وربما كان لرحيل أم الكوني عام 2013 في واحة فزّان، أثرٌ جعله يتناول الصحراء كأم تشتت أبناؤها وتفرقوا في البلدان.
ورغم الاستدعاء السريع الذي تجلبه شخصية الرواية لناقة النبي صالح إلى الذهن، إلا أنه لا علاقة لناقة الكوني، بناقة النبي التي جلبها لقومه آية كي يعبدوا الله فعقروها، فجاءتهم الصاعقة وقضت عليهم، بينما ناقة الكوني هي الأم النبيلة الطيبة التي رأت قومها قد تفرّقوا، وأرادت أن تعود إلى وطنها في الجنوب، كي يعودوا هم أيضاً، إلى الأصل الذي أُجبروا على تركه بسبب ظروف سياسية جائرة حدثت في ما بين القرنين التاسع عشر والعشرين.

تدور أحدث الرواية على وقع تقسيم الصحراء الكبرى بين الدول الحالية من قبل الاستعمار واتفاقياته الدولية، وجرّاء ذلك تم سجن وتهجير أعداد كبيرة من الطوارق من أوطانهم الأصلية، لتبدأ محنة الاغتراب والتيه عن الوطن.

اسم الناقة هو "تاملات"، والتي تعني بلغة الطوارق الجاموس البري، ناقة حرّة تتمرّد على راعيها لتسلك طريق العودة إلى النبع الجاف والرمل الذي نشأت فيه، لا تحتاج إلى دليل أو حادٍ. ورغم احتجاجات الراعي ومحاولة لجمها إلا أن تمرّدها يتواصل، فهي لا تريد البقاء في الشمال الذي شتّت أهلها، ترغب في ترك هذه الأرض الحمادة الحمراء، لتعود إلى موطنها الأم وتنجب هناك، فلربما يمكنها بناء جيل جديد لا يغريه الساحل ويتجنّب شراكه الشبيهة بالسراب.

على صعيد الأجواء واللغة، فإن رواية "ناقة الله" ككل روايات الكوني، تحتوي على المفردات التي بتنا نعرفه من خلالها وتقترب في أجوائها من أعماله القديمة مثل "السحرة" و"المجوس" و"نزيف الحجر"، تغوص داخل النفس الإنسانية لتخرج ما فيها من أحاسيس مختلفة، وذلك من خلال أنسنة الحيوان، وتحميله مشاعر الحنين والتمرّد والأمل، همّه أن يعود إلى بيته الذي أُخرج منه. لكن البشر يمنعونه، يريدون الاحتفاظ به فلا يتركونه يعود، ثمة توتر غير مرئي يظل يعلو بين الحيوان والبشر، هكذا حتى يربطونه في نخلة وفي لحظة ما ينحرونه ويشوونه ثم يلتهمونه، كما ناقة صالح الواردة قصّتها في الكتب المقدسة.

في رواية "ناقة الله" يواصل الكوني انطلاقته نحو الزمن الحاضر الحديث والمكان المديني، بعد أن أنفق سنوات طويلة تناول فيها الماضي وأساطيره وروحانياته. هذه العودة سُجّلت له منذ أن تناول عوالم العصر العثماني في ليبيا من خلال الأسرة "القرمانلية" ( أسرة استمرت في حكم ليبيا حتى عام 1835) التي اشتهرت بسطوتها البحرية، حتى أنها فرضت أتاوات على السفن التي تمخر المتوسط بما فيها السفن الأميركية.

الحالة هذه تذكرنا بمجموعة قديمة للكوني، وهي الثالثة بعد " الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة" و"شجرة الرتم"، حيث تناول في قصص "جرعة دم" (1993) شخصية بدوي جاء إلى المدينة ليجد نفسه في مظاهرة ضد النظام ثم تحت الأقدام ثم في السجن.

بدا صاحب "الدنيا أيام ثلاثة" قريباً من زماننا قبل أن يبتعد ويضيع في الصحراء مكتشفاً كنوزاً إنسانية، هو الذي يقول "ضيّع نفسك تجدها". وهاهو يعود إلى الحاضر محاولاً القبض عليه.

لكن الحاضر متحرّك، يمضي إلى الأمام، ربما لن يسبقه الكاتب المعروف بالتأنّي، لكن قد يفعلها ويكتب نصوصاً مستقبلية، خيالاً علمياً أدبياً مثلاً، لا أحد يمكنه أن يستغرب أو يتكهن، كنا نقول منذ سنوات إن الكوني سيظل في الصحراء، ولن يدخل المدينة، لكنه دخلها سريعاً، عبر باب التاريخ، بخطى ثابتة، معتمداً على كتاب قيم هو "الحوليات الليبية" الذي كتبه الفرنسي شارل فيرو وترجمه محمد الوافي.

اقرأ أيضاً ألبيرتو دي بيرا طبيب فاشي بين شعب ملثّم

المساهمون