يختلف واقع العلاقات العائلية الجزائرية في السنوات الأخيرة عن فترة الاستعمار، عندما كانت اللحمة قوية والنزاعات نادرة والمودّة مصانة والأنانية قليلة في اقتسام اللقمة والإرث. وكانت التجمعات السكانية في الجهات الأربع للبلاد تُنسَب إلى جدّ واحد، فيقال "أولاد فلان" أو "بنو فلان". كذلك كان الإخوة يعيشون في بيت واحد، حتى بعد أن يصبحوا آباء بدورهم، ولا يلجؤون إلى ما يُعرف شعبيًا بـ"القسمة" إلا عند رحيل الجدّ.
وتزخر الثقافة الشعبية الجزائرية بعشرات الأمثال والحكم والمحكيات، التي تتناول العلاقات العائلية، لا سيما بين الإخوة والأبناء والآباء والأعمام والأخوال. ويسمّى القريب في القاموس الشعبي "الدم" أو "الكبد". يقال هذا دمي أو كبدي أي قريبي، وتتناقض هذه الأمثال والحكم تناقضاً صريحاً في ما يتعلّق بالأهل والأقارب. بعضها يحثّ على التمسك بهم والحفاظ على ودّهم، من ذلك المثل القائل: "خوك.. خوك بلا يغرّك صاحبك"، ومعناه إذا كنت مراهناً على إنسان فراهن على أخيك لا على صديقك. أما بعض آخر فيحذّر من الثقة فيهم وانتظار الخير منهم، من قبيل: "همّي من دمي" و"المرّارة في الكبدة"، مما يعني أنّنا نجد المرارة، التي تعني الأمور المكروهة، في الكبد الذي يعني الأهل.
وإذا أردنا أن ننتقي مثلاً شعبياً يعبّر عن واقع العلاقات العائلية في الجزائر اليوم، مدينياً كان أم قروياً، فلن نجد أفضل من "ناري في داري"، ذلك أنّ التشنّج بين العائلات التي تحمل اللقب نفسه، بات هو المحرّك ليومياتها وتفاصيلها. وفي واقعة شهدناها، تلقّى سائق سيارة أجرة اتصالاً هاتفياً يُنبئه بوفاة عمّه. فسأل عن عنوان بيت الراحل. لم يكن يعرف أين يقع بيت عمه، إذ لم يزره منذ عشر سنوات بسبب خلاف بين أبيه وعمّه حول قطعة أرض.
يقول الأكاديمي، لونيس بن علي، إنّه كان متأكداً من أنّ قاتل الطفلة نهال، التي تحوّل قتلها إلى قضية رأي عام في الجزائر، ينتمي إلى أسرة الضحية. ويشرح أنّ "العائلات الجزائرية هي براميل بارود، فتيلها مشتعل على الدوام. هي قضية وقت، قبل أن تنفجر وتقع كوارث لا حدود لها". يضيف الأستاذ المحاضر في جامعة بجاية: "حدث لي أن تابعت جلسات قضائية في محكمة بجاية، وشعرتُ بالاستغراب من حجم النزاعات التي تمرّ على منصة القاضي في كل يوم. هي ملفات بالمئات، وكلها نزاعات عائلية، وجلها نزاعات على مسائل تافهة كانت تحلّ في السابق بالحوار العائلي المفتوح".
ويدعو بن علي إلى قراءة هذا المعطى بتأنّ، قائلاً: "الخطر اليوم يسكن فينا وبيننا. وما كان يعرّف كخلية أساسية للمجتمع، بدأ يتحوّل إلى خلية سرطانية خطيرة، تهدد صحة المجتمع برمته". ويتابع أنّ "مجتمعنا، شئنا أم أبينا، يعاني من أمراض نفسية كثيرة مثل الحقد والحسد والنفاق والطمع والعنصرية. ولأننا لا نريد الاعتراف بأمراضنا، فسوف نظل نترصّد بعضنا بعضاً، وننتظر الطعنة التي لن تأتي من غريب". ويشير إلى أنّ "في الجزائر 25 ألف مسجد، والعدد نفسه من المدارس، وعشرات الجامعات، وألوف الجمعيات، ومئات الأحزاب والجرائد والقنوات، ومع ذلك فإنّ المعطيات كلها تقول إنّ المجتمع يتوجه إلى الهاوية! كلّ شيء عاطل من العمل، إلاّ آلة الحقد". ويردف قائلاً: "بالمناسبة، ابن عمي هدّد والدي في يوم بأنّه سوف يقتله".
في السياق نفسه، يقول المحامي، الأمين حجاج، إنّ القضايا المتعلقة بالاعتداء على الأصول في المحاكم الجزائرية باتت مثيرة للانتباه، على الرغم من السكوت عنها. وهو ما يعني، أنّ "الأمهات والآباء والأجداد لم يعد لديهم دور يذكر في تسيير الحياة داخل البيوت". ويضيف أنّ "الاستغناء عن خبراتهم والخروج عن سلطتهم في إطار التحولات الاجتماعية والاقتصادية غير المدروسة، أسّسا لهذا الواقع العائلي المفخخ".
ولا يغفل حجاج عوامل موضوعية أخرى، منها "الاستقالة المعنوية للإنسان الجزائري من أداء دور مجتمعي نتيجة الإحباط الناتج عن الإحساس بالخيبة في الشعارات الكبرى، التي رفعتها حكومات الاستقلال، وتراجع دور الجامع والجمعية والجامعة، وانتشار ثقافة الملكية الخاصة بعد المدّ الاشتراكي من دون تمهيد لذلك. هذا كله أجّج الأنانيات والنزاعات داخل العائلات". ويسأل: "ما معنى أنّ الأسر الجزائرية تماسكت في زمن كانت الأميّة ضاربة فيه أطنابها، وباتت هشّة ومفتوحة على النزاعات بعدما بات المتعلمون غالبية في المجتمع؟".
ويلفت حجاج إلى أنّه في يوم واحد فقط في محكمة قسنطينة (شرق)، يوقّع 300 طلاق، مؤكداً أنّه "رقم مخيف جداً، ويؤشّر إلى أنّ التفكك بات هو الحالة التي تتحكم بالمجتمع الجزائري. المجتمع الجزائري حيث الاهتمام بقضاياه الاستهلاكية وليس بقضاياه الإنسانية". ويشرح: "حضرت جلسة تراوحت فيها أعمار المطلقين بين 19 و77 عاماً، أي أنّ التفكك بات يشمل كلّ الأعمار. وهو المعطى الذي يقتضي تكامل المنظومات المعنية بتحصين المجتمع، لوضع حلول سريعة تتجاوز النظرة السطحية والقافزة على الأسباب الجوهرية، قبل أن تصبح الجريمة والفوضى عنواناً للحياة العامة".