"نابليون" دائما على حق... والباقون خونة

19 مارس 2016
الصفة الأبرز لبوكسر الثقة العمياء بالسلطة، حد الغباء(مواقع التواصل)
+ الخط -

في المشاهد المأساوية الأخيرة من رواية "مزرعة الحيوان"، للأديب الإنجليزي إيريك آرثر بلير، المعروف باسم جورج أورويل، يبيع الزعيم نابليون الحصان بوكسر للجزار كي يذبحه ويستفيد من لحمه، متغاضياً عن كل ما قدمه الأخير من جهود جليلة لأجل عموم الحيوانات في المزرعة، وكذلك بعد الوعود التي قطعها نابليون على نفسه بأنه سوف يعطيه حريته ليرعى في السهول بأمان مكافأةً له على جهوده الجبارة، إلا أنها كانت مجرد وعودٍ فضفاضة ليس أكثر!


كاتب الرواية يقصد بشخصية بوكسر، بلا شك، الطبقة العاملة في الدول التي تحكم من قبل أنظمة شمولية، وفي الاتحاد السوفييتي، وهو المثال الأبرز عن هذه الأنظمة خصوصاً، حيث لاقى عمال القطاع العام فيه مصيراً لا يقل تراجيدية عن مصير الحصان بوكسر، وذلك إبان انهياره في التسعينيات، وبالقياس على المعطيات ذاتها، فإن طبقة عمال وموظفي الدولة في سورية خاصة والدول العربية التي كانت محكومة بأنظمة أمنية بوليسية عامة، كانت تسير نحو المصير ذاته، لولا قيام الربيع العربي.

الثورة في سورية وخلال السنة الأولى كشفت النقاب عن شريحة مؤيدة من أبناء طبقة عمال وموظفي القطاع العام المهيمن عليه بشكل كامل من قبل السلطة، ولم تكن بأكملها تسير في ركب الأسد بل فريق منها، فئة منها استطاعت إرباك الثوار في الفترة الأولى من حركتهم، وتمسكت بالنظام ودافعت عنه لأقصى حد، مهما فعل أو أجرم بحق شعبهم وحاضناتهم الاجتماعية بالذات، وهي الأشد فقراً والأكثر تضرراً من ممارسات النظام.

فالصفة الأبرز التي يسبغها أورويل على شخصية الحصان بوكسر في رواية "مزرعة الحيوان" - وهي من أكثر الروايات شهرة وعالمية في ما يخص تناولها للطبقات والتغيّرات الاجتماعية في المجتمعات التي ترزح تحت حكم أنظمة شمولية بوليسية عاتية الجبروت - هي الثقة العمياء بالسلطة وبما حوله، والتي تصل به حد الغباء، حيث يقول أورويل فيها: "تستطيع أن تستشف الغباء من ملامحه"، ويقصد الحصان بوكسر بذلك. ولعل أورويل بالغ بالقسوة في هذا الوصف، وأجحف بحق هذه الطبقة، فالبساطة لا تعني الغباء بالضرورة. لقد كان انطباعي عن بوكسر في الرواية، أنه شخصية طاهرة السريرة، معطاء لأقصى حد، وهب تعبه وسنوات عمره في محاولة منه لجعل المزرعة أجمل وأفضل بما يخدم المجموع، ولكن بنظر أورويل أنه "غبي" لاعتقاده أن بإمكانه تحقيق ذلك بالشراكة مع عصابة "نابليون".

أما الصفة الثانية فهي الولاء المطلق، حيث يقول بوكسر عند كل حدث جلل في مزرعة الحيوان: "نابليون دائماً على حق، ونابليون هو رأس النظام في مزرعة الحيوان، وما دونه هم متآمرون وخونة"، ويبقى يردد العبارة ذاتها حتى يباع وهو لا يعلم، وفي الوقت ذاته لا يعطي أهمية للأصوات التي تحذره مما يرسمه نابليون له، لذلك كان بوكسر قد وضع مصيره بين يدي نابليون، معولاً على شعارات الأخير وأخلاقياته المزعومة التي لم يقبض منها إلا الريح!

لم تكن هذه التبعية للنظام - للسلطة لتأتي من فراغ، فكل الأنظمة الشمولية حول العالم تعمل على إلحاق الطبقة العاملة بها، لتكون ركيزة حكمها وتكون مرتبطة بها أشد ارتباط بحيث إذا ذهبت السلطة تذهب هذه الطبقة، وهو الأمر ذاته الذي تحدث عنه مايلز كوبلاند في كتابه "لعبة الأمم"، وذلك رغم الشكوك التي أثيرت حول هذا الكتاب، ورغم الاتهامات التي سيقت له ولكاتبه بأنه تسويق لنظرية المؤامرة. بالرغم من كل ذلك فإنه، أي الكتاب، يعطي دليلاً وإنْ كان ضعيفاً على توجه الأنظمة الشمولية، ونظام عبدالناصر في مصر تحديداً، نحو خلق طبقة من العمال والموظفين تكون الركيزة للسيطرة على المجتمع، وهو منطقي جداً قياساً على حكم أنظمة لا تمتلك شرعية حقيقية. ويزيد من هذا الطرح أن الأنظمة العربية ما عدا الملكيات الخليجية قد استنسخت التجربة الناصرية بحذافيرها وبقيت تحكمنا لعشية الربيع العربي، حيث يؤكد الكتاب على أن جمال عبدالناصر رفض نصائح الخبراء الأميركيين بأن يكون العدد الكلي لموظفي جهاز دولته لا يتجاوز بضع مئات من الألوف، بينما اعتمد ناصر أكثر من مليون موظف في الدوائر الرسمية، وبرر موقفه للخبراء الأميركان، بحسب كوبلاند، بأنه يريد طبقة تحمل نظامه الجديد لا عمال وموظفين منتجين وفعالين.

رغم أنه لم تكن لدينا في سورية طبقة عمال بالمعنى الحقيقي للمفهوم العلمي للصراع الطبقي، إلا أنها كانت موجودة، كأكثر من مفهوم جماعة وأقل من طبقة، عمل النظام على تشويهها ومسخها وإلحاقها به، وعند أول تأزم اقتصادي سوف يقوم ببيعها ومكاسبها وتمديد أمد حكمه بالتعيّش على أثمانها.

(سورية)

دلالات
المساهمون