يصعب اختزال المشهد أو وصفه بكلمات. فالزحام الخانق حول فندق "تيرمال"، المقرّ الرئيسي لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، يعكس نبضًا تعرفه المدينة في فترة مهرجانها، وإنْ يكن جزءٌ كبيرٌ من صانعي الزحام غير معنيين بالسينما. والشوارع المحيطة بالفندق تتحوّل، رغم هذا، إلى احتفالٍ يواكب المدينة أثناء مهرجانها، إذْ تتحوّل الأزقة إلى أمكنةٍ جاذبة لراغبين في تبديد كل فاصل بين ما يحدث في الفندق لحظة افتتاح دورة جديدة للمهرجان وفي يومياته أيضًا، وما يجري عند المدخل الرئيسي للفندق الأشهر في المدينة، وما يحصل في كلّ حيّز قريبٍ أو بعيدٍ.
هذا يعني أن المدينة، رغم انفضاض كثيرين فيها عن المهرجان السينمائي، متمكّنة من مواكبة حدثٍ سنوي متحوّل، منذ أعوام عديدة، إلى أحد أبرز المَشاهد السينمائية في العالم على مستوى المهرجانات. مع هذا، فإنّ الانفضاض عاجزٌ عن تعطيل علاقة متينة بين كثيرين وصالات فندق "تيرمال" والمدينة، التي تعرض أفلامًا مختارة من دول أوروبا الوسطى والشرقية كنواة جوهرية للبنيان الثقافي ـ الفني للمهرجان، إذْ تُلاحظ وفرة مشاهدين يقفون في صفوفٍ طويلة لشراء بطاقات دخول، كي يتابعوا أحوال العالم بعيون الكاميرات السينمائية الآتية إليهم من كل بلدان العالم.
ففي لحظة افتتاح الدورة الـ53 (29 يونيو/ حزيران ـ 7 يوليو/ تموز 2018) لـ"مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي"، مثلاً، يفترش كثيرون الأراضي المحيطة بالفندق، ويقف آخرون ساعاتٍ مديدة لمتابعة وصول الضيوف النجوم، أو للاستماع ـ لاحقًا ـ إلى عزف "الفرقة الوطنية التشيكية" مقطوعات موسيقية تكريمًا للسينمائي التشيكي الأميركي الراحل ميلوش فورمان (1930 ـ 2018)، بينما يختار البعض حضور أفلامٍ يبدأ عرضها قبل الافتتاح الرسمي. والأمكنة المحيطة بالفندق تتحوّل، في أيامه الـ10 تحديدًا، إلى مساحة تتّسع لمطاعم ومقاهٍ (تتجاور ومطاعم ومقاه حاضرة دائمًا في المدينة)، ومنصّات مختلفة مهتمّة بالترويج لبضائع متنوّعة، بينما تفتح الصالات الـ4 داخل الفندق أبوابها أمام صحافيين وعاملين في صناعة السينما ومهتمّين بها، لمُشاهدة أفلام مُنتجة بغالبيتها الساحقة عامي 2017 و2018.
هذا ليس عابرًا. هناك قدرة غامضة تزيل الفواصل كلّها بين المدينة والمهرجان، وإنْ يَزُر كثيرون المدينة للاستفادة من خدماتها الصحية في منتجعات مياهها الساخنة والطبيعية، أو لسياحةٍ لن تخلو كلّيًا من تلك الاستفادة. فندق "تيرمال"، المبنى الوحيد في المدينة الذي يمتلك "بشاعة" واضحة للعيان وسط جمال ممتدّ من الطبيعة إلى العمارة والشوارع، يكتظّ بضيوفٍ لا علاقة لهم بالمهرجان، رغم أنه يستضيف نجومًا ومدعوين إليه في الوقت نفسه. أما السهرات الليلية، خصوصًا تلك المُقامة يومي الافتتاح والختام في محيط الفندق، فتشهد غالبًا شابات وشباب تشيكيين يأتون من العاصمة براغ للمُشاركة بها فقط (126 كلم تفصل بين المدينتين).
والمفارقة الأكبر كامنةٌ في خلو المدينة برمّتها من أعلام دولٍ تخوض منتخباتها الوطنية منافسات حادة للفوز بكأس العالم، في الدورة الـ21 (14 يونيو/ حزيران ـ 15 يوليو/ تموز 2018) للمباريات الدولية تلك. حتى أن القادمين إلى المدينة أو المقيمين فيها يُظهرون لامبالاة واضحة إزاء حدث دولي يستقطب مئات ملايين المتابعين والمهتمّين، باستثناء شاشات بعض المقاهي داخل فندق "تيرمال" وخارجه. لكن هذا غير مانع لأحدٍ من متابعة مباراة بين منتخبين يكترث بأحدهما، كما هو حاصل قبل 4 أعوام، إذْ يتوجّه بعض ضيوف المهرجان ـ إثر خروجه من صالة عرض سينمائي ـ إلى مقهى يعرض مباراة كهذه، فيلتقي أناسًا فيه لن يفهم لغتهم ولن يتواصل معهم رغم أنهم يتشاركون حماسةً أو انتباهًا لما يجري في الملعب الأخضر.
أما بشاعة عمارة "تيرمال" فمثيرة لنكتةٍ يتداولها كثيرون سنويًا، تقول إن أفضل فعلٍ يُقام به لتجنّب تلك البشاعة، يكمن في الإقامة في الفندق المرتفع وسط مساحة تجعله واضحًا للعيان، فيعجز المارّون عن تجنّب إلقاء نظرة عليه. وإذْ يعتبر البعض أن هذه مجرّد نكتة، فإن بعضًا آخر لن يتردّد عن تحقيق هذا الفعل للغاية نفسها.
في المقابل، فإن اختيار الفندق مقرًّا للمهرجان مبنيٌّ على أسباب عملية: فهو مُقام وسط المدينة، ومُحاطٌ بعدد كبير من الفنادق والمطاعم والمحلات، ولديه مساحة قابلة لاحتضان راغبين في سهرٍ يومي على جانبي نهرٍ صغير يمرّ بالقرب منه. كما أنه يتمتّع بأمكنة متنوّعة الأشكال والأحجام، تتيح جعلها مكاتب خاصّة بإدارة المهرجان بمختلف مهنها، أو منصّات ومقاهٍ للضيوف والمدعوين، أو صالات بعضها غير سينمائيّ، لكنه يصلح لعروضٍ صحافية صباحية.
والمهرجان، الذي يُكرِّم ميلوش فورمان وتيم روبنز (1958) ليلة افتتاح دورته الجديدة تلك، ينفتح على دولٍ تعيش تطوّرًا عمليًا في صناعة سينما محلية، تُنافس غيرها من صناعات أوروبية معروفة: من "دولة التشيك"، التي تمتلك حيّزها الخاص في كلّ دورة من دورات المهرجان، إلى الدول الخاضعة سابقًا لـ"الاتحاد السوفياتي"، من دون تناسي برامج الاستعادات والاحتفالات بالمُكرَّمين، وغيرها من التنويع الذي يستحيل لمهتمّ متابعته كلّه.
مع هذا، فإن المسابقة الرسمية للأفلام الطويلة مثلاً تضمّ 12 فيلمًا فقط، وهو الرقم نفسه للأفلام المُشاركة في مسابقة "شرق الغرب"، كما في مسابقة الأفلام الوثائقية أيضًا.
أما برنامج "نظرة أخرى"، فيحتوي على 29 فيلمًا، معظمها معروضٌ للمرة الأولى دوليًا في الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ". ورغم أن إدارة مهرجان كارلوفي فاري عاجزةٌ عن الحصول على أفلام "الدب الذهبي" (برليناله) أو "السعفة الذهبية" (كانّ)؛ إلاّ أن أفلامًا أخرى، فائزة بجوائز مختلفة أو غير فائزة، يُعاد عرضها في مهرجان مُصنّف فئة أولى على غرار هذين المهرجانين الدوليين. إزاء حالة كهذه، يُردِّد متابعون دائمون للمهرجان التشيكي الدولي أن هذه الأفلام تحديدًا تستقطب عددًا من المُشاهدين التشيكيين أكبر، أحيانًا، من عدد المهتمّين بالأفلام الأخرى.