"مشاعر للإيجار"

05 يوليو 2017

(غوستاف كليمت)

+ الخط -
كنت أعتقد أنها لن تحتاج أكثر من الشراب والطعام، وأن البشر قد يعيشون وحيدين مع الرفاهية، بسبب خذلانهم من البشر، حتى بدأت الحكاية مع القطة التي أرعاها من أجل ابني الذي يحب القطط منذ صغره. وهكذا اعتادت أن تلتصق بي، لأنها اكتشفت، بذكائها الفطري، أنني من يعد الطعام في البيت، وبمجرد أن أستيقظ، في الصباح الباكر، أسمع صوتها وهي تخربش باب البيت الخارجي بأظافرها. وبمجرّد أن تشعر باستيقاظي، تبدأ في الخربشة، لكي أفتح لها الباب وأقدّم لها الطعام، وقد كنت أتضايق، في بداية الأمر، من هذه المهمة الصباحية، وأضع لها الطعام وأنا أتذمّر، حتى لاحظت أن صحة القطة تتدهور، وأنها لم تعد تركض خلفي، حين أتوجه إلى المطبخ كعادتها. ويوماً بعد يوم، فقدت شهيتها وحماسها، ولم تعد تمارس عادتها للفت انتباهي في ساعات الفجر لكي أفتح لها الباب. وبدأت بدوري أهتم بأمر التغيير الذي اعتراها، فصرت أفتح لها الباب، بمجرد أن أستيقظ، ومن دون أن تبدر منها حركةٌ تطالبني بذلك، وأدخلها برفقٍ إلى الداخل، وأربت على ظهرها، وأقدّم لها الطعام، وأشجّعها على تناوله بكلمات رقيقة، وكأني أتحدث إلى طفل صغير، وهي تنظر لي بنظراتٍ أشعرتني أنها تفهم كل ما يدور حولها، وبأنها لمست تبدّل مشاعري، فتحسّنت صحتها، وانتعش نشاطها، واستردت شهيتها.
تذكّرت أني قرأت، قبل سنوات، عن ممرضةٍ بريطانيةٍ، قرّر المسؤولون في المستشفى الذي تعمل فيه فصلها عن العمل، بعد أن لاحظوا أن كل الأطفال المواليد الذين تضعهم في حضنها، وتقوم بإرضاعهم عن طريق الرضاعة الصناعية، بدلاً من أمهاتهم، ولأسبابٍ صحيةٍ مختلفة، تبيّن أن هؤلاء المواليد تتراجع صحتهم ولا تتحسن، بل إن أكثرهم قد ماتوا، والسبب أن الممرّضة كانت تتذمر طوال الوقت من مهنتها التي تتطلب الحنان والصبر وطول البال. وذهبت الدراسات وقتها إلى أنها حين تتذمر وتشكو والمولود في حجرها، فهناك غازاتٌ ضارّةٌ، تنتج عن تنفسّها، يستنشقها الرضيع، فتؤدي إلى تدهور صحته، ووفاته في بعض الأحيان.
وربما علينا أن نتحدّث بلا حرج، أو استخفاف، عن دواء خلصت إليه طبيبة مصرية في أحد أبحاثها، حيث أشارت إلى أن الاحتضان والعناق كفيلان بتفريغ شحنة الألم المكبوتة والطاقة السلبية، وأن الذين يعانون من متاعب نفسية، كالانطواء والعزلة، بحاجة لبرنامج يستمر شهراً، يشمل الاسترخاء والعناق والاحتضان من المقرّبين منهم، سواء الزوج أو الأم أو الأخ. وقد ذكرت الدكتورة سها عيد، في طريقة علاجها، أن الطفل يحتاج 24 ضمة يومياً، فيما يحتاج الزوجان إلى 15ضمة يومياً، وهذه الضمات كفيلة بتوسيع الصدر والصحة النفسية للكبار ومغالبة الشجار والخلاف، أما للطفل فهي من وسائل نموه الجسدي، وصيانته النفسية.
ودليلاً على أهمية الاحتضان، توفر وكالات مرخصة في العالم وظيفة المعانق المحترف بواقع 80 دولاراً في الساعة، وهي خدمة تقدّم للتخفيف من إجهاد الأشخاص الوحيدين وحزنهم. وهناك شركات عالمية تبنت اختراع أريكةٍ على شكل دميةٍ جاهزةٍ لاحتضان من يجلس عليها ممن يعانون من الوحدة.
إذا كان الاحتضان الحل لهذه المشكلات، يجب أن نحرص عليه ونقدّمه للآخرين، ولا ننتظر ورشة عملٍ تقوم بها الطبيبة المصرية، وتستدعي أهل مرضاها وأقاربهم، وتوفر لهم المكان الذي عليهم احتضان المريض فيه، فكل إنسانٍ يحتاج، في لحظةٍ ما، أن يحتضنه الآخر، ويحتاج حرارة إنسان، وليس موظفاً يتقاضى أجراً أو دمية. ولكن، هل نضمن أن يقدمه أحبتنا لنا بـ "ذمة وضمير"، وليس تأدية واجب، كما فعلت صفية العمري، في فيلم سينمائي، مع زوجها البيه البواب (أحمد زكي)، والذي على الرغم من جهله وبساطته، أدرك أنها تحتضنه وتقبله تأدية واجب لا أكثر، ومن أجل أن تحصل على أمواله، فهذه حنكةٌ لن يملكها بعضهم، وقد يكون من الخير أن يكون الإنسان تعيساً وعارفاً من أن يكون سعيداً ومخدوعاً.
سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.