ليست المرة الأولى، تكرر السؤال: متى تعود؟. وتكررت الإجابة: لا أريد أن أعود. على الأقل ليس الآن.
كلما تكرر السؤال، كررت الإجابة، ويوماً بعد يوم يزيد يقيني أنني يجب ألا أفكر في العودة، كنت لفترة كارهاً البقاء في مصر بسبب الانقلاب والقمع وغياب الحريات، لكنني مع الوقت أصبحت كارهاً للعودة بسبب آخر غير السلطة، هو الناس.
لم تعد مشكلة مصر الوحيدة في نظامها الحاكم، بغض النظر عن شكله وتصرفاته أو جنونه أو حتى غبائه. مشكلة بلادي الحقيقية تتمثل في أهلها، هم طيبون، ودودون، مهادنون. هذا الشائع عنهم. لكن، في رأيي، كان هذا في الماضي، لا شك أن بينهم الآن ملايين الطيبين، لكن الواقع أنه بات بينهم أيضاً مئات آلاف المجرمين والمحرضين والقتلة، وملايين المُضَلَلين.
لا أريد العيش بين هؤلاء، لا أريد لأطفالي أن يتربّوا في هذا المناخ، لا أود أن أتعرض مجدداً لسخافات الناس، أو جهالاتهم. وبالطبع لن أقبل مجدداً أن أعيش في بلد يحتله العساكر، ويتولى أموره الكهول، ومعظمهم من الفاسدين، وينجح فيه الفشلة فقط لأنهم منافقون أو وصوليون. حتى وإن كان هذا الوضع قائم في معظم البلدان تقريباً.
"هذه بلاد لم تعد كبلادي"، بلادي أرض الطيبين، وهم باتوا أقلية متوارية في مصر حالياً. بلادي أرض المتدينين، وهؤلاء باتوا إما شهداء أو معتقلين أو مطاردين. بلادي أرض العلماء والعقلاء، وهؤلاء أيضا بات عبد العاطي وعكاشة ومرتضى يظهرون دونهم، ويمثلون الشعب عنهم.
يطاردني مجدداً: أنت هكذا تتخلى عن حلم ثورة شاركت فيها، وتهرب من ميدان كنت تحث الناس على التوجه إليه والبقاء فيه، أنت تترك بلادك التي تحبها نهباً للفاسدين والجهلة والفاشلين ممن تتحدث عنهم، لو فعلها كل مصري، فلن تقوم لها قائمة بالتأكيد.
ربما كان محقاً في كثير مما يقول، لكن أيضاً جرت في النهر مياه كثيرة، وعانت النفس آثار أحداث أكثر. في رأيي لم تعد المغادرة هروباً، بل نجاة. النجاة من مستنقع لم يعد صالحاً للبقاء فيه فريضة، النجاة من مجتمع لم يعد مناسباً للحياة واجب، الهروب أحياناً حل وحيد.
أجلس مع زميلتي التي تطاردها هواجس العودة، تركت العائلة والمنزل والذكريات، ترغب في العودة، كلما مر الوقت زاد حنينها للعودة، ثم ومع كل أزمة نشاهدها من على بعد، تخلّت رويداً رويداً عن هذا الحنين.
تقول لي: ترى لو كنا في مصر الآن، فأين كان مصيرنا، السجن أم القبر؟، أم مشفى للعلاج من إصابات جسدية أو نفسية؟، ثم تجيب بنفسها على سؤالها: لا شك أن كل تلك الاحتمالات واردة، لن أعود أيضاً. أنت محقّ.
في اليوم التالي يعود لها الحنين. أما أنا فقراري لم يتغير، لن أعود. على الأقل ليس الآن.
يقول صديقي إنني هارب ينتظر أن تشفى البلاد من علّتها، لا أجادله، ربما كان محقاً، لكني أشعر في قرارة نفسي بأن هروبي، إذا كان هروباً، غرضه منح نفسي الوقت للشفاء من العلل التي أصيبت بها في الأعوام الأخيرة.
كلما أشعر بالحنين أكرر هذا المقطع البديع الحزين "مساكين بنضحك م البلوه. زي الديوك والروح حلوه. سارقاها م السكين حموه. ولسه جوه القلب أمل".
ثم أتذكر مصير كاتبه نجيب سرور، هذا الكاتب الألمعي الذي لم يتمكن من الهرب من هذا المستنقع، وأكرر على نفسي: لو أنه تمكن من الهرب لكان بيننا الآن يمتعنا بعشرات من تجلياته.
لن أعود. على الأقل ليس الآن.