يعود إلى الواجهة هذه الأيام الجدل القديم حول تجسيد الأنبياء والصحابة في الأفلام السينمائية. هذا الجدل الذي يثار باستمرار مع كل عمل يتناول الحقبة التاريخية الأولى للإسلام، حيث يكون الرسول محمد أو الصحابة أبرز الفاعلين، ما يعني أن تجسيدهم سيكون أساسياً في العمل السينمائي أو التلفزيوني.
يُسترجع هذا الجدل أيضاً مع إنتاج فيلم سينمائي أجنبي يتناول قصص الأنبياء. تتركز الأسئلة في هذه الحالة على جواز أو حُرمة مشاهدة هذه الأعمال. فبانعدام أي إمكانية لإيقاف إنتاج هذه الأعمال، غالباً ما تؤدي الضغوطات إلى وقف عرض هذه الأفلام في صالات السينما العربية، كما حدث مؤخراً مع فيلم "نوح" الذي جسّده الممثل راسل كرو، أو كما أوقف عرض فيلم "المسيح" بعد احتجاج كنائس عربية مشرقية على سيناريو الفيلم.
الجدل نفسه يعود حالياً إلى الساحة العربية، مع عرض فيلم "محمد رسول الله" في صالات السينما الإيرانية. في حين، يعتبر مخرج الفيلم مجيد مجيدي أن العمل فرصة لإظهار جانب منفتح من الإسلام، في ظل التشويه الذي يتعرّض له من قبل المتطرّفين، خاصة تنظيم داعش، على حد تصريحاته.
لعل فيلم "الرسالة" لـ مصطفى العقّاد أشهر الأفلام التي تناولت سنوات ظهور الإسلام. أُنتج الفيلم في سبعينيات القرن الماضي، بنسختين إنجليزية وعربية.
وقتها، انقسم علماء الدين المسلمون حول المشروعية الدينية لتصوير الفيلم، خاصة وأنه يجسّد بعض الصحابة كحمزة بن عبد المطلب وبلال بن رباح وعمار بن ياسر وآخرين.
ورغم موافقة "الأزهر" و"المجلس الشيعي الأعلى" على السيناريو، أُصدرت عدة فتاوى ضد مشروع الفيلم، خصوصاً في المملكة العربية السعودية، منها فتوى "اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء" وما قرّره "المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي" و"مجمع الفقه الإسلامي" التابع للرابطة كذلك.
وقد أصدر عبد العزيز بن باز فتوى تفصيلية تحرّم تصوير الرسول أو الصحابة، منذ أن وصلته الأنباء بعزم العقاد إنتاج فيلم "الرسالة". وجاء في فتوى ابن باز أن تجسيد الرسول مُحرّم بإجماع المسلمين.
أما في مسألة تجسيد الصحابة، فأشار لنقاط مختلفة، منها: أن تجسيدهم ينافي ثناء الله عليهم ورفع قدرهم، وأن تمثيلهم قد يجعلهم في موضع للسخرية والاستهزاء، وأن الممثلين غير مؤهّلين لتجسيدهم، لذا يرى ابن باز تحريم هذه الأعمال لأن مفاسدها أكبر من أي مصلحة.
وقبل فتوى ابن باز، كانت هناك فتوى نشرت في بدايات 1973، صدرت بعد أن تقدّم طلال بن الشيخ محمود البسني المكي (وكان مديراً لشركة إنتاج سينمائي لبنانية) بسؤال إلى "اللجنة الدائمة للإفتاء" في السعودية، حول مشروع تجسيد حياة الصحابي بلال بن رباح.
وكانت الهيئة قد أجابت بتحريم هذا العمل، لأسباب مشابهة لتلك التي ذكرها ابن باز. وقد كرّر "مجمع الفقه الإسلامي" التأكيد على فتاوى تحريم تجسيد الأنبياء والصحابة في مناسبات مختلفة، إذ أكد عليها في 1985، ومرة أخرى في 2010.
أثّرت هذه الفتاوى بصورة كبيرة على مشروع فيلم "الرسالة"، إذ رفضت كل من السعودية والأردن السماح للعقاد بالتصوير في أراضيها، وتعرّضت المغرب لضغوطات من أجل إيقاف تصوير الفيلم، ووقع إيقاف التصوير بعد ستة أشهر من البدء بالعمل، ليتم لاحقاً استكماله في ليبيا.
وفي سنة 2011، عاد جدل تصوير الصحابة بقوة إلى الساحة، هذه المرة تلفزيونياً، مع إنتاج ثم عرض مسلسل يجسّد حياة الصحابي عمر بن الخطّاب. مسلسل "عُمر" دخل الجدل بطريقة مختلفة، باعتبار أن "الرقابة الشرعية" رافقت مراحل كتابة السيناريو، الذي جاء في النهاية مشفوعاً باشتراطات عدة، منها أن الممثل الذي سيؤدي دور عمر لا يمكنه التمثيل لعدة سنوات، حتى لا يسيء بأدواره الأخرى إلى شخصية عمر في أذهان المتلقّين.
حظي المسلسل بدعم من رجال الدين، وهو الذي أُنتج من جهات يُنظر إليها باعتبارها ذات توجهات إسلامية. فقد أجيز من قبل الكثير من أسماء مثل يوسف القرضاوي رئيس "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، ونائبه آنذاك عبد الله بن بيه، وسلمان العودة، وعضو هيئة كبار علماء السعودية قيس المبارك، بالإضافة إلى فقهاء آخرين من مختلف أقطار العالم الإسلامي.
أما الرافضون للمسلسل، فقاموا باسترجاع ذات الجدالات التي تخاض حول هذه المسألة منذ سبعينيات القرن الماضي، وبالحجج ذاتها. وكان فقهاء آخرون قد تحدّثوا عن تحريم هذه الأعمال لحرمة تصوير النساء وسماع الموسيقى!
بالوصول إلى فيلم "محمد رسول الله"، فقد استنكر شيخ الأزهر أحمد الطيب تصوير الرسول في الفيلم. وكانت الخارجية السعودية قد عبّرت عن رفض السعودية لهذا المشروع، في بدايات الحديث عن إنتاجه سنة 2012.
الفيلم كلّف قرابة 40 مليون دولار، ما يجعله الأكثر كلفة في تاريخ السينما الإيرانية، وهو يُعرض في 141 صالة سينما إيرانية، كما سيشارك مجيدي به في "مهرجان مونتريال السينمائي".
هناك عدة متغيّرات تواكب فيلم مجيدي اليوم، أولها أن الفيلم يجسّد الرسول محمد بشكل مباشر، ما يجعل الموضوع أكثر حساسية من الأعمال الأخرى التي جسّدت أنبياء آخرين أو الصحابة.
كما أن الفيلم يأتي في وقت تضاعف فيها الشعور بأهمية الإعلام وأدواته، خصوصاً السينما، في إيصال رسائل سياسية وثقافية، دون أن ننسى استثمار التنظيمات الإرهابية -كتنظيم داعش- للإنتاج التلفزيوني في بث رسائل دعائية، ومحاولة بث الرعب في الخصوم من خلال التفنن في تصوير القتل والتدمير.
بالإضافة إلى هذا، وباعتبار الفيلم من إنتاج إيراني، فإن هذه النقطة ستكون هي الأخرى محلّ خلاف، فالموروث الديني الشيعي ينظر إلى السيرة المحمّدية بصورة مغايرة عن الرؤية السنية.
وعلى مستوى تجسيد الشخصيات الدينية، يجري تمثيل "مقتل الإمام الحسين" مثلاً كل عام ضمن موسم عاشوراء الديني في إيران والعراق، بينما لا نجد هذا الاستخدام المسرحي في المناسبات الدينية السنية، ويستعاض عنه بالوعظ الخطابي.
لكن، ورغم تواصل الجدال وتكراره مع كل عمل، لا سيما ونحن نستحضر الأعمال التي تحدّثت عن الإسلام المبكر، منذ الأفلام المصرية بالأبيض والأسود وصولاً إلى فيلم مجيدي الأخير "محمد رسول الله"، لا يخفى علينا أن الشخصيات الدينية التاريخية قد تزايد حضورها على الشاشة، ما يشير إلى نزول سقف المحرّمات التي يحدّدها الفقهاء على مدى العقود بشكل تدريجي، دون أن يمنع ذلك في كل مرة اصطدام السينما بالفقهاء.
* كاتب من أسرة العربي الجديد