قبل أيام، صدر في لندن العدد الأول من مجلّةٍ فصليةٍ بعنوان "مثاقفات"، أسّسها الشاعر الجزائري عمر أزراج (1949) الذي أشار في مقدّمة العدد إلى أنَّ المجلّة الجديدة "تَسعى للمساهمة الجادّة في عمليات المثاقفة مع الثقافات والحضارات العالمية. مِن خلال هذا المشروع، نسعى إلى ردم الفجوات الكثيرة التي فصلت وما فتئت تفصل بيننا وبين الغرب والحضارات الأخرى في آسيا الوسطى وآسيا الأقصى والأمريكيتين الشمالية والجنوبية"، و"إلى فهم واستيعاب الثقافات الأجنبية... إدراك الروح التي تصدر عنها، في محاولة لغرسها في تربة ثقافاتنا وفق تركيبة تتحاور وتنسجم مع هويَاتنا".
وبصدور "مثاقفات"، يكون الكاتب والشاعر الجزائري المقيمُ في بريطانيا منذ أكثر من ثلاثة عقود، قد حقّق مشروعاً قديماً حاوَلَ تجسيده في الجزائر خلال عودته إليها وإقامته فيها بين 2007 و2010 دون أن يتمكّن من ذلك؛ فـ "السلطات الجزائرية كانت - ولا تزال - تعتبرُني معارضاً"، يقول أزراج في حديثه إلى "العربي الجديد"، قبل أن يستعرض تفاصيل تلك التجربة بالقول: "قبل عدّة سنوات، في فترة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، قرّرتُ رفقة صديقٍ لي إصدار مجلّة فكرية في الجزائر. استأجرنا مقرّاً في الجزائر العاصمة وتقدّمنا بطلبٍ رسمي لاعتماد المشروع. بعد ذلك، استدعتني الشرطة الخاصّة وأجرَت معي تحقيقاً ماراثونياً عجيباً وغريباً استغرق قرابة ساعتَين ونصف. ثمُّ بقينا ننتظر ردّاً طيلة نصف سنة، لكنَّ الردّ لم يأت، سواء بالإيجاب أو الرفض".
محاولة للإسهام في ربط الثقافة العربية بالثقافات الأُخرى
يروي أزراج أنه التقى بعد ذلك في إحدى دورات معرض الجزائر الدولي للكتاب، عن طريق الصدفة، مسؤولاً في المخابرات الجزائرية يُعرَف باسم "الكولونيل فوزي"، الذي كان يُوصف برئيس التحرير الفعلي لوسائل الإعلام الجزائرية، وطلبَ منه الردّ على طلب اعتماد المجلّة، لكنَّه لم يفعل، مضيفاً: "بعد سنةٍ من صمت الكولونيل ونظام بوتفليقة والجهاز البوليسي الذي يُسمَّى اعتباطاً قسمَ الحريات في وزارة العدل، يئسنا وفهمنا أنّ ذلك الصمت يعني الرفض. وقد أدّى ذلك إلى إجهاض المشروع".
يواصل صاحب ديوان "الجميلة تقتل الوحش" (1978): "بعد تلك التجربة المريرة - التي تُضاف إلى تجارب الملاحقات البوليسية التي عانيتُ منها في فترات سابقةٍ من حياتي كشاعر وكاتب - أدركتُ أنّ لا مكان لي في الجزائر، وشرعتُ في ترتيب وضعي لأغادر الجزائر مجدَّداً وبشكلٍ نهائي هذه المرّة"، ويضيف: "عدتُ إلى بريطانيا لتنفيذ مشروع المجلّة، وتقدّمتُ إلى الجهات المسؤولة بطلب الاعتماد وجاءني الجواب بالموافقة في أقلَّ من شهرٍ ومعه رسالة تتضمّن وعداً بمنحي قرضاً قيمتُه قرابة خمسين ألف يورو، على أنْ أُسدّده بالتقسيط حسب الطريقة التي تُناسبني. لكنّني زهدتُ في القرض واتّكلتُ على نفسي. وها هي المجلّة ترى النور أخيراً".
يحتوي العدد الأول من مجلّة "مثاقفات" ملفّاً حول الفيلسوف الفرنسي الراحل ميشال فوكو يتضمّن مقالَين؛ الأوّل بعنوان "أنا وفوكو والفلسفة"، وفيه يوثّق المفكّر التونسي فتحي التريكي لعلاقته الشخصية والفكرية والإنسانية مع فوكو، معتبراً أنَّ إقامة الأخير في تونس حيث عمل أستاذاً لعبت دوراً محورياً في تغيير فكره، وبذلك تكون تونس قد أسهمت في تزويده برؤىً جديدة حول السياسة والحياة والفكر.
أمّا المقال الثاني، فيحمل عنوان "تأمُّلات في أركيولوجيا المستعمرات" للمفكّر الفرنسي أورازيو إيريرا، وترجمته الأكاديمية الجزائرية فتيحة بشّيخ. ويرصد المقال تأثير فوكو على تشكيل نظريات ما بعد الكولونيالية النقدية وعلى عددٍ من الدارسين والنقّاد والمفكّرين ما بعد الاستعماريّين أمثال إدوارد سعيد الذي "عاتب فوكو بسبب عدم أخذه بعين الاعتبار لبُعد مهم وهو مقاومات السلطة"، والهندي هومي بابا الذي وظّف فكرة الخطاب عند فوكو وسحبها إلى مجال التحليل النقدي للخطاب الكولونيالي وما بعد الكولونيالي، وأضاف فكرة "التأرجُح الوجداني" لدى المستعمِر والمستعمَر معاً إلى الجهاز النظري لفوكو، والهندية غياتري سبيفاك التي استفادت من أفكار فوكو بخصوص المهمّشين والمهمّشات وغذّتها بدورها بفكرة "التابع" التي نقلتها من سياق نقد غرامشي الماركسي إلى نقد العلاقات التي أفرزها الاستعمار الإنكليزي للمجتمع الهندي.
كما يتطرّق المقال إلى عدد من النقاد الأفارقة الذين تأثّروا بأفكار فوكو وعدّلوا أيضا فيها لتُلائم السياق الأفريقي ذا الخصوصية التاريخية والثقافية؛ أمثال أشيل أمبامبي، و في. ي. مودنبي.
طلب اعتمادها في الجزائر لم يلق ردّاً بالإيجاب أو الرفض
وفي مجال الشعر، يتضمّن العدد 14 قصيدة من الشعر البريطاني المعاصر بترجمة الشاعر العراقي صلاح فائق، ومجموعة من قصائد الشاعر الفرنسي كريستيان بوبان بترجمة الشاعر التونسي خالد النجّار، إضافةً إلى قصيدة "نيويورك" للشاعر السنغالي ليوبولد سنغور بترجمة الشاعر الجزائري ميلود خيزار. كما شارك الناقد العراقي حاتم الصكر في هذا العدد بدراسة مستفيضة حول "المثاقفة الشعرية العربية مع الشعر الغربي".
وخصّصت المجلّة ملفّاً لأخلاقيات التحليل النفسي والغيرية يتضمن ثلاث مقالاتٍ هي: "لا تمكُث بعيداً عن الآخر" لـ جاك آر، بترجمة الشاعر الفلسطيني الليبي جميل حمادة، و"وظيفة الكلام والاغتراب المضاعف للذات" لـ لورنزو تشييسا، بترجمة الشاعر والمترجم السوري فادي أبو ديب، و"التحليل النفسي في الثقافة العربية: نقد مرجعيات الدكتاتورية" لعمر أزراج.
كما تضمّن العددُ حواراً مع الشاعر اللبناني الفرنسي الراحل صلاح ستيتية أجراه الكاتب الجزائري المقيم في باريس بوعلام رمضاني، إلى جانب مقالٍ بعنوان "تاريخ مختصر للفلاسفة وقصَات شعرهم" للممثّل الفكاهي البريطاني شون غيتنس بترجمة أستاذ الفلسفة الجزائري عبد الحكيم بليطة، وفيه تناول موضوعاً طريفاً يتمثّل في علاقة الترابُط بين أسلوب تسريحات شَعر الفلاسفة وبين النظريات الفلسفية التي يدافعون عنها، إضافةً إلى مقالٍ بعنوان "دعوةٌ لبناء مفهوم المواطنة الثقافية" حول المفكّر البريطاني غي ستاندينغ وأطروحته المركزية حول ضرورة تأسيس الأجر القاعدي لجميع المواطنين على المستوى العالمي لمحاربة التهميش الاقتصادي والفوارق الطبقية، فضلاً عن دعواته إلى بناء مفهوم جديد للمواطنة الثقافية عالمياً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بعيداً عن الجزائر
إحدى المفارقات التي قد تواجهها مجلّة "مثاقفات"، ونحن نتحدّث هنا عن النسخة الورقية، هي أنَّ بمقدور أصحابها إيصالها إلى جميع عواصم العالم، باستثناء الجزائر. السبب هو القوانين الجزائرية المقيِّدة لدخول المجلّات الثقافية والعلمية. في هذا السياق، يُخبرنا الناشر كمال قرور أنه تحدّث مع عمر أزراج عن إمكانية توزيع المجلّة في الجزائر فأجاب مرحّباً، قبل أن يكتشف صعوبة الأمر، وربما استحالته.