تحظى مدينة إسطنبول التركية بسكانها الذين يتجاوز عددهم 15 مليون نسمة بشبكة مواصلات حديثة لعلّ أبرز عناصرها مشروع "متروبوس" الذي تمتد آثاره إلى نواحٍ اجتماعية ملحوظة.
تلعب المواصلات العامة في أيّ مدينة، وبالذات في المدن الضخمة، دوراً كبيراً ومؤثراً في سكانها سواء على المستوى الصحي والأمني والاقتصادي أو المعيشي وصولاً إلى بنية الهوية الاجتماعية والتوزيع الديموغرافي. وبالرغم من التطور الهائل الذي عاشته مدينة إسطنبول على مستوى البنية التحتية والمواصلات خلال العقد الأخير، إلاّ أنّ مشروع "متروبوس" يبقى علامة فارقة في تاريخ المواصلات في هذه المدينة التركية.
افتتح القسم الأول من مشروع "متروبوس" عام 2007 بعد عمل استمر عامين، وأطلق هذا الاسم عليه كونه هجيناً بين قطار الأنفاق (المترو) والحافلة (الباص). ويتكون المشروع من حافلات نقل سريعة تسير في ممرين واسعين مخصصين لها، يمنع السياج الموجود على طرف كل ممر حركة المرور العادية من الدخول، فلا تدخل سوى سيارات الإسعاف أو الشرطة وفقط عند الضرورة. ويمتد الممران على أوتوستراد "دي 100" الذي يقطع مدينة إسطنبول من شرقها لغربها، لمسافة 50 كم، ويضم 45 محطة، سبع منها في القسم الآسيوي، ليعبر نحو القسم الأوروبي عبر جسر البوسفور (15 يوليو/ تموز) الذي ينقل يومياً أكثر من 800 ألف راكب.
يُعَدّ "متروبوس" الذي يعمل 24 ساعة في اليوم، من وسائل التنقل الرخيصة، فكلفة عبور جميع المحطات نحو دولار أميركي واحد فقط، وتنخفض الكلفة بالنسبة للتلاميذ والطلاب والمتقاعدين والأشخاص ذوي الإعاقة، وكذلك بحسب عدد المحطات التي يقطعها الراكب الذي ليس عليه إلاّ أن يدخل إلى محطة الانطلاق ببطاقة المواصلات الرسمية، ليستعيد جزءاً مما دفعه بحسب تعداد المحطات التي سلكها، عند خروجه من المحطة المستهدفة.
من الناحية الاقتصادية والبيئية، تؤكد دراسة أجرتها بلدية إسطنبول، أنّ "متروبوس" الذي لا تتجاوز سرعته 40 كيلومتراً في الساعة يساهم في منع انبعاث 623 طناً من ثاني أوكسيد الكربون في اليوم، ويوفر استهلاك 242 طناً من الوقود، ويقلل تعداد السيارات على الطرقات ثمانين ألف سيارة. وقد حلّ محل 209 حافلات نقل عامة، و1296 حافلة نقل عامة صغيرة.
تقول سلمى (50 عاماً) وهي محاسبة تستخدم "متروبوس" للانتقال من مكان عملها في منطقة شيشلي إلى منزلها في منطقة أفجلار: "الطريق من منزلي إلى العمل مزدحم بشكل لا يطاق في أوقات الذروة، حتى أنّني كنت أعمد أحياناً إلى تأخير انصرافي من العمل وآتي باكراً جداً كي لا أعلق في زحمة الطرقات. قبل ثلاث سنوات تعطلت سيارتي، فاضطررت إلى استخدام المتروبوس، وبدلاً من الوصول إلى المنزل بساعة ونصف وصلت بأربعين دقيقة. في أحيان كثيرة يضطر المرء إلى الوقوف في أوقات الذروة في المتروبوس، لكن يبقى الأمر أفضل من الانتظار والتعب في قيادة السيارة".
أثر "متروبوس" وصل إلى النسيج الاجتماعي للمدينة، من خلال تسهيل الانتقال وزيادة التواصل بين أبناء الطبقات الفقيرة وتلك المتوسطة، عبر تقديم وسيلة مواصلات رخيصة سمحت للجميع بالانتقال وبسهولة. لكن، تحوّل في أحيان كثيرة إلى مركز جدل سياسي في سنواته الأولى، وهو ما يشير إليه أستاذ التاريخ في جامعة "صابنجي" في إسطنبول، آدم ماك كونيل، في بحث له بعنوان "ما يعنيه المتروبوس حقيقة لأهل إسطنبول" في قوله: "من الآثار الهامة لرواج المتروبوس أنّ معظم سكان إسطنبول باتوا أكثر حركة وأقل تقوقعاً في أحيائهم. وقد زاد هذا من الإمكانية والرغبة للتنقّل محليّاً، خصوصاً بالنسبة للطبقات العاملة. وأيضاً كنتيجة، فقد اختلطت الطبقات العاملة والطبقات الوسطى بشدّة أكبر بكثير من الماضي. وقد زادت أيضاً أنظمة السكك الحديدية المبنية في السنوات الخمس عشرة الماضية من هذا الأثر".
على الرغم من أنّ بنية المجتمع التركي تغيرت كثيراً منذ بناء "متروبوس" سواء من الناحية الاجتماعية أو الاقتصادية، فإنّ بحث ماك كونيل حول سبب الانتقادات الشديدة التي وجهت إلى المشروع في بدايته، يستحق الذكر، إذ ربط هذه الانتقادات، بطريقة فريدة، بالبنية الطبقية للمجتمع التركي والتيارات السياسة التي تتنازع السيطرة عليه. يقول: "ما زال من المستحيل نفسياً بالنسبة للشريحة العلمانية من المجتمع التركي، أي هؤلاء الذين يعتبرون أنفسهم يحوزون الحضارة على النقيض من بقية المجتمع التركي، أن يقرّوا أنّ هؤلاء الناس، أي المحافظين، يمكنهم أن ينجزوا أشياء عظيمة. وهذا أيضاً هو جوهر معارضة هذه المجموعات لمشاريع البنية التحتية مثل الجسر الثالث فوق البوسفور، ونفق مترو مرمرة تحت مضيق البوسفور، وغيرها من المشاريع الكبرى".
يضيف كونيل في بحثه أنّ "هذا يقود إلى السبب الأساس للشكاوى حول المتروبوس، المتمثل في الطبقة الاجتماعية، فالمتروبوس يفيد الطبقات المتوسطة والعاملة، فالطبقة العليا تملك أساساً سيارات، وبالتالي فإنّ أبناءها ينظرون إلى المتروبوس من بعيد، وبازدراء، وعندما تتخطاهم الحافلات مسرعة بينما يجلسون في الزحام على الطريق، تخطر في بالهم فكرة من قبيل: كيف يعقل أن تحصل الجماهير الغوغاء على وسائل نقل أسرع منّا بكثير؟ تزودهم أيضاً الصحافة المعارضة ووسائل التواصل الاجتماعي بالكثير من الأعذار لعدم الركوب في المتروبوس ومنها: الاكتظاظ، وسوء النظافة الشخصية للطبقات العاملة، ومضايقة النساء، والجرائم الصغيرة".