"أن يسخر التاريخ من صانعيه"، هي لازمة في مسيرة الكاتب المسرحي ريتشارد بين (1956) صاحب الأعمال التي تعدّ بمثابة مرافعات ضد "الحرية" بكل مضامينها المشتهاة في الغرب.
موضوعة الحرية تفرض نفسها أيضاً مع حضور المحامي كليف كولمان (1946)، الذي تخلى عن مهنة "العدالة"، ليتفرغ للكتابة والبحث عن سؤال العيش في عالم ما بعد لحظة الاكتشاف.
اجتماع الاثنين (بين وكولمان) يكاد يكون الصيغة الواقعية لعمل مسرحي، اشتركا في كتابته، عن سؤالي الحرية والعدالة في مسرحية "ماركس الشاب" (2017) التي تعرض هذه الأيام على خشبة مسرح "ذا بريدج"، حيث تُبنى السرديات المكثّفة لا عن تغيير العالم، بل عن حبكة ساخرة لسؤال؛ لماذا صار رأس المال مكافئاً للعالم؟
مع نص وأداء مكثفين، وقبل أن تُفتح الستارة الافتراضية، يظهر التاريخ بعين مخرج العمل نيكولاس هيتنر (1956)، دُخاناً صاعداً من العتمة. الزمان خريف عام 1850، والمكانُ زقاقُ شارع "دين" في حي "سوهو" اللندني، وهو اختيار ذو رمزية توحي بالمفارقات، فحيّ المهاجرين اللصيق شمالاً بـ"ويست منيستر"، والذي مرّ بدروب اليسار والتمرد التروتسكي، هو نفسه الذي تحطم بمداميك رأس المال في العقود الأربعة الأخيرة.
يظهر الشاب كارل ماركس (يؤدي دوره الممثل روري كينّير، 1978)، أو تشارلز ماركس بحسب ما يرغب التاجر اللندني في تسميته، وفق ظرفية اللغة/ القومية واستخداماتها، أسيراً لقواعد السوق، والتهمة الجاهزة بأنه يهودي لص، ساخراً من عجزه التام أمام هذا العجوز وجرسه، فقيراً لاجئاً من كولن الألمانية، ومعه إبريق فضي موقّع باسم عائلة زوجته الاسكتلندية الأرستقراطية. في محاولة يائسة من ماركس لبيع الإبريق لسد رمق زوجته وطفليه (من وراء ظهرها)، يندفع رجل الأمن من الخلفية لتبدأ مطاردة المشكوك في أمره وفي إبريقه وزواجه من الأصل.
المطاردة شبح لازم كل فصول المسرحية، بين هذا المدان الهارب مع ثلة من الألمان والفرنسيين، جاؤوا إلى لندن عقب فشل ثورة 1848 ليخططوا لعمل إرهابي؛ قتل الملكة فيكتوريا التي يحبها عمّال إنكلترا.
هناك أيضاً شخصية التلميذ النجيب لماركس، وهو شاب يهودي تمرد على طائفته، ونذر حياته من أجل ماركس، يظل وحيداً ومنبوذاً من بين اليهود والإنكليز على حد سواء، ومحط سخرية من الجمهور.
أما الشرطي الأبيض فيظهر ساذجاً وهو يلاحق هذا اللص الهارب، متسلّحاً بالأوراق القانونية لضبط المشتبه فيه بسرقة إبريق الأسرة الأرستقراطية الاسكتلندية، في حين يراقبه من أعلى شاب أسود تحرّر حديثاً بضغط من حركة الـ"كويكر"، لكنّه وجد نفسه مجبراً على أن يكون مخبراً للأمن البريطاني بحثاً عن اللاجئين البيض من أوروبا.
ماركس وزوجته جيني فون ويستفالين (تلعب دورها الممثلة نانسي كارول، 1974)، وطفلته عاشقة الموسيقى وابنه الصغير الذي كان أسير المرض، يعيشون في بيت فقير في شارع "دين". لكن الزوجة الأرستقراطية رغم قطيعتها مع أسرتها تحتفظ بخادمتها رقيقة المشاعر نيم (لورا إلفنستون)، هذه المشهدية العائلية تكاد تكون كلاسيكية الافتراض، إلا أنها تبدو متوافقة مع منطق القرن التاسع عشر، بكل ما فيه من الأثر الفيكتوري على لندن. بيت فقير، تصرّ صاحبته على الرغم من ذلك، على عدم فقدان أوانيه الفضية والسجاد والمنضدة الخشبية وأقداح النبيذ وكؤوس الويسكي الفاخر. بيت كان مليئاً بالتناقضات، هي تناقضات ماركس الشاب نفسه، عن تغيير العالم بدلاً من الذهاب للبحث عن عمل وهو في منفاه اللندني.
هنا تبرز شخصية فريدريك إنجلز (أوليفر كرست) الضمير الثابت في كل المراحل لمراكس، مع وخز حادّ أحياناً لصيرورة هذا المفكر العاطل عن العمل، يرفض ماركس الافتراضي هنا الإرهاب وسيلة لتغيير العالم، مع رسالة مبطّنة من صنّاع العمل، بأن الشيوعية سواء ظهرت في روسيا أو بريطانيا فمصيرها الانهيار، وغمز واضح من كتاب "رأس المال: نقد الاقتصاد السياسي".
في اجتماع الخلية الإرهابية الأول والأخير، يخرج أو يكاد روري كينير عن النص المكتوب في زمنه، ليتحدث بلغة ليبرالية القرن الواحد والعشرين، مدافعاً عن الحرية والحق في الحياة، ناسفاً أي توجه لتغيير العالم خارج الحبر والورق، غير متناس شرفه العائلي، بقمع صوت زوجته التي يحبها وليتبين لاحقاً أنه يحبّ (يخونها مع) خادمتها التي حملت منه.
معركة الشرف العائلي تنسف رؤية الطبقة العاملة لديه، كما تنسف مفهوم نفي الطبقات، ليدخل في معركته الأولى ليس مع البرجوازية، ولكن مع رفيقه الألماني الذي أتى من كولون الألمانية لأن مشاعره تميل إلى زوجة ماركس، ويعتقد أنه أجدر بها ليس كعشيقة سرية وإنما كزوجة وحبيبة، في حين كان ماركس يعشق بالسر خادمة زوجته الاسكتلندية.
خيانة الطبقة الكادحة هنا لم توفّر حتى مكتبة بريطانيا (British Library) حيث تتصاعد الأحداث إلى ذروتها الثانية، بالاشتباك بين ماركس وإنجلز (الضمير)، الذي يتحول إلى فوضى عارمة في معقل رمزي لإحدى واجهات التفكير الرأسمالي الكلاسيكي أي المكتبة، نحو مصير الخادمة التي يحاول ماركس إقناع إنجلز بالزواج منها والاعتراف بجنينها كي لا يتحطم زواجه من جيني، يرفض إنجلز بشدة تحطيم قلب الخادمة والعبث بمشاعرها كما يريد البراغماتي ماركس، ويرتجل نصاً أخّاذاً عن الفقر، حيث يعيش الأطفال والحيوانات في حظائر متسخة، يغطيها الدخان الأسود المتصاعد من فوهات المصانع في مانشستر، ورغم أنه حائر بين الاستقلال عن أبيه بالعمل في مشروع السكة الحديدية بلندن، أو العودة إلى مانشستر والاستسلام للواقع، إلا أنه لم يوافق ماركس الشاب ولا في أي محطة على انتهازيته لتغيير العالم، مصرّاً على مواجهة الواقع.
لم ينته مشهد المكتبة من دون تفويت فرصة التصويب على تشارلز داروين وماهية الإنسان وأصله، ومحاولة التلميح بشكل ساخر إلى أن الإنسان ما هو إلا سلعة في السوق أيضاً.
قبل الخاتمة، وبعد أن يوضع ماركس في السجن لتراكم ديونه، ومصادرة كل ممتلكات عائلته المتواضعة (من قبل الرأسمالي الذي تعمّد أن لا تكون له هوية)، تتحمل جيني مسؤولية عائلة وخادمة حبلى من زوجها، قبل أن يضاف إلى ذلك الموت المفاجئ لابن ماركس فوكسي.
هنا يخرج ماركس من محبسه بعد أن سدد إنجلز ديونه، وكانا قد سرقا باب الكنيسة وأخفياه، ثم يركض ماركس باتجاه قبر ابنه الصغير، يرفض كلمات الرب والإنجيل ويشارك أحزانه وجيني والخادمة وطفلته وإنجلز مع حفارة قبور عجوز، يهيل الرمل على القبر الصغير دامعاً متآنساً بجلال حفارة القبور وصمتها الدهري على كل ما جرى ويجري.
تنتهي الحكاية بطفلة لم تزل تعزف على البيانو، ورضيع جديد وفد على العائلة. ماركس لا يزال يكتب رأس المال، أما إنجلز فيرحل بصمت إلى مانشستر، وتختتم المسرحية بحديث ذي نبرة مأساوية بينهما مفاده أن "العالم" هو رأس المال!
حيث كان الرفاق يحلمون
في طريقه لحضور جلسة الحكم عليه في "توتنهام كورت" لم يوفر ماركس (في المسرحية) حانةً في الطريق، مودّعاً آخر شيلنغ في جيبه، مترنحاً أمام القاضي الذي لم يكن حاضرا فالحكم عليه صدر سلفاً. لكنه داخل الزنزانة بدا أكثر يفاعة وحباً لزوجته المخلصة. في حين أن أكثر ما كان يقلقه ويجول في رأسه هو صورة محطة قطارات بدنغتون، فهناك على الطرف الآخر من نهاية شريط السكة الحديدية كان الرفاق يحلمون.