"مؤتمر الدراسات التاريخية": مقاربات جديدة

22 ابريل 2016
(من المؤتمر)
+ الخط -

انطلقت، اليوم، في بيروت، أشغال "المؤتمر السنوي الثالث للدراسات التاريخية"، الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، ويتناول هذا العام، على مدار ثلاثة أيام، موضوع "التأريخ العربي وتاريخ العرب: كيف كُتب تاريخ العرب؟ وكيف يُكتب؟ الإجابات الممكنة".

خُصّص اليومُ للمحور الأول من الملتقى: "كتابة التاريخ العربي مضموناً وتحقيباً ومنهجاً"، والذي ضمّ ثلاث جلسات. في الجلسة الأولى، التي ترأّسها الباحث والمؤرّخ اللبناني أحمد بيضون، حاول أحمد الشبلول تسليط الضوء على مناهج عدد من المؤرّخين والمفكّرين العرب، بين القرنين التاسع والرابع عشر للميلاد.

من خلال قراءته النقدية لعدد من المؤرّخين الغربيين، طرح الشبلول إشكالية فهم "مكانة" التاريخ الحضاري العربي في سياق تاريخ الحضارة الإنسانية في عصرنا الراهن، معتبراً أنه "لم يعد مفيداً ولا مقبولاً" أن ينحصر اهتمام المؤرّخ الحديث بالاطّلاع على المصادر التاريخية التقليدية، والروايات والوثائق الرسمية.

يلفت المتحدّث إلى حاجة المؤرّخ إلى الاستفادة من أعمال الفلاسفة والأطبّاء البارزين في التاريخ العربي؛ مثل الكندي وحنين بن اسحاق والفارابي وابن سينا وابن رشد.

في ورقته التي حملت عنوان "أحادية التأريخ للحركة القومية العربية المبكّرة"، تطرّق الكاتب اللبناني محمود حداد إلى مسألة التاريخ العربي التركي المشترك، معتبراً أن الحركة القومية العربية لم تقتصر على الصراع بين النخبة التركية التحديثية وطبقة الأعيان العرب التقليديين، مضيفاً أن الحركة القومية كانت صراعاً بين نخبتين تحديثيتين متماثلتين؛ هما: جماعة "تركيا الفتاة" و"العربية الفتاة".

بالنسبة إلى حدّاد، فإن الصراع الثقافي والاجتماعي الحديث بين سياسات المركز العثماني والأطراف العربية بدأ منذ عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وإن لم يصل إلى المستوى نفسه الذي وصله بعد عزل السلطان عبد الحميد من الحكم في عام 1909.

تناول الباحث السوري عمار السمر، في ورقة بعنوان "المقاربات الرسمية لكتابة التاريخ العربي" تجربتين من التجارب الرسمية العربية في كتابة التاريخ: الأولى، مشروع إعادة كتابة تاريخ العرب في سورية، الذي تبّنته سورية؛ والثانية، "الكتاب المرجع في تاريخ الأمة العربية"، الذي تبنّته جامعة الدول العربية.

واعتبر السمر أن "البلدان العربية أوجدت لأنفسها تواريخ خلطت فيها الوطني بالقومي بالإسلامي، بما يلائم نُظُمها الحاكمة ويعزّز شرعيتها التاريخية".

في الجلسة الثانية من المحور الأول التي ترأّسها الباحث الفلسطيني محمود سويد، شارك كل من الباحث السوداني أحمد أبو شوك بدراسة عنوانها "مشكلة التحقيب: التاريخ العربي الإسلامي نموذجًا"، والمؤرّخ المغربي إبراهيم بوتشيش بدراسة عنوانها "الربيع العربي كحلقة جديدة في التحقيب التاريخي: الإرهاصات التأسيسية لكتابة تاريخ غير مدّون"، والباحث المصري محمد عزالدين بدراسة عنوانها "البحث عن الزمن الضائع: صراعات الثورة والذاكرة والعدالة في مصر".

تناول أبو شوك ثلاثة محاور رئيسة؛ عرض المحور الأول مدخلاً مفاهيمياً إلى الأبعاد الفلسفية والفكرية التي استندت إليها الأطروحات التحقيبية، والمصطلحات المفتاحية المتعلّقة بالحقب التاريخية، وناقش الثاني الأطروحات التي قُدّمت بشأن تاريخ المسلمين، بينما حاول الثالث تقديم معالجة تحليلية نقدية للأطروحات التحقيبية لتاريخ المسلمين.

يعتبر أبو شوك أن مسألة التحقيب ترتبط بمعرفة المؤرّخ التاريخية، وأن المنطلقات الفكرية لا تخلق تحقيباً موضوعياً للتاريخ، بل تقود إلى فرضيات مربكة، واصفاً التحقيب بأنه "صناعة المؤرّخ الذي ينتهج معايير خاصة"، وهو ما يؤدّي إلى عدم استقرار التحقيبات على نسق واحد، متسائلاً: هل يمكن تعديل التحقيب الثلاثي الأوروبي لدمج التحقيب الاسلامي؟

في ورقته، يقترح إبراهيم بوتشيش أن يكون الربيع العربي منعطفًا زمنياً في تاريخ الشعوب العربية، لا مجرّد معطىً سياسي أفرز ثورات أو انتفاضات أو انفجارات.

ينطلق في دعوته تلك من اعتبار أن رياح العولمة تفرض أسئلة جديدة في قضية التحقيب التاريخي؛ حيث "تحوّلت العلاقات البشرية من علاقات عامودية إلى تباينات أفقية"، ليصل إلى القول بأن "الربيع العربي ابن شرعي للتحوّلات العالمية".

يعتبر المتحدّث أن "الربيع العربي" فكر جديد نحت مربّعاً جديداً في تاريخ الأفكار، وأنه الوجه الآخر الأقدر على كشف التشبيك الحاصل بين الذهنيات والثوابت، وبين ما جرى تثبيته في وجدان الشخصية العربية وما ترتّب عنه من تفاعلات في المجال الديني والاجتماعي والفكري بصورة تتجاوز التحقيب السياسي السائد.

يتساءل بوتشيش أيضاً عن الحضور النسائي في الربيع العربي، ليجيب بأنه اتّسم بالكثافة؛ "كما تحرّرنا من عقدة الخوف، إذ تحول هذا الخوف من المحكوم إلى الحاكم".

في ورقته، ركّز محمد عزالدين على الحالة المصرية، وقارب إشكالية علاقة الثورة بالذاكرة الجماعية في مصر منذ ثورة 25 يناير، محاولاً رصد أنماط تفكّك السردية الوطنية للتاريخ الحديث وسجالات التذكّر والنسيان وتجدّدها.

يعتبر عزالدين أن الثورة جاءت "في لحظة اختيارية في الحقبة التاريخة التي بدأت مع مبارك عام 1981، والتي سادت فيها سياسة القطع بين الماضي والحاضر والمسقبل".

الجلسة الثالثة من المحور الأول ترأّسها الباحث العراقي نصير الكعبي، وضمّت ورقة لمحمد مرقطن بعنوان "الحضارات القديمة في البلاد العربية ومسألة تكوين الهوية التاريخية لأمة العرب"، أثار فيها مسألة كتابة تاريخ الحضارات القديمة في البلدان العربية وموقف المؤرّخين العرب منها.

تناولت الورقة كتابة تاريخ الحضارات القديمة في البلاد العربية في زمن الاستعمار، بما في ذلك منهجية علم الآثار بتوجهاته القومية وعلم الآثار الاستعماري، وركزت على كتابة تاريخ هذه الحضارات في زمن الدولة الوطنية، أي بعد الاستقلال، ودور المؤرّخين العرب ومنهجيتهم في كتابة حضاراتهم والمنهجية الغربية والاستشراقية في كتابة تاريخ هذه الحضارات، وما يُسمّى مرحلة الاستعمار الجديد وعلم الآثار الاستعماري الحديث.

يذهب مرقطن إلى أن العرب أقل الشعوب التي كتبت عن حضاراتها، وأن ما كُتب عن الحضارة العربية أتى باللغات الأجنبية: "لم يستطع المؤرّخون العرب المحدثون تكوين مدرسة ذات منهجية واضحة لكتابة التاريخ العربي القديم أو تاريخ الحضارات في بلادهم، وهناك معضلة حقيقية عند العرب في التعامل مع ماضيهم الحضاري".

ضمّت الجلسة أيضاً ورقة للمؤرّخ التونسي محمد الأزهر الغربي بعنوان "العرب والتاريخ الاقتصادي: مقاربة استغرافية لدراسة الإسلام الكلاسيكي"، تناول فيها علاقة التاريخ بالاقتصاد، معتبراً أن التاريخ العربي لم يُكتب بعد من وجهة نظر التاريخ الاقتصادي.

يرى الغربي أن الكتابة التاريخية العربية التي تناولت الإسلام المبكّر، أهمل أغلبها مقاربة التاريخ الاقتصادي، وأولى التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي أهمية مطلقة.

بدوره، قدّم الباحث المصري أنور زناتي ورقة بعنوان "كُتب النوازل مصدراً للدراسات الاقتصادية والاجتماعية في المغرب والأندلس ("نوازل ابن الحاج" 1134م أنموذجاً).

يعتبر زناتي أن أغلبية الكتابات التي تتناول التاريخ الإسلامي كانت مواليةً للحاكم. ومن هنا، لا بد من البحث عن مراجع أخرى لكتابة التاريخ، مثل كتب الأدب والفتاوى والنوازل والمناقب والعقود والتصوّف والكرامات.

يؤكّد أن تلك المؤلّفات تكتسب دورها وأهميتها من كونها كانت بعيدة إلى حد كبير عن عيون الحكام، إذ يسرد بعضها تاريخ الواقع المعاش والحياة اليومية، ويتابع الوقائع والحوادث، ويسجّل ظواهرها وتطوراتها.

يعتبر المتحدّث بأن "النوازل" تتميّز بالواقعية، وأنها لا تأتي من فراغ، بل هي حوادث واقعية في الحياة اليومية، مضيفاً "نوازل ابن الحاج تميّزت بالتنوع والإغراق في المحلية، ليخلص إلى القول بأن "كتب النوازل قدّمت للتاريخ مصادر لا مثيل لها".

الجلسة الرابعة من المحور الأول ترأّسها المؤرّخ العراقي سيار الجميل، وشارك فيها الباحث العراقي رشيد الخيون ببحث حول "جواد علي: الريادة في تاريخ قبل الإسلام"، وعبد الرحمن شمس بدراسة عن "منهجية كمال الصليبي: التوراة جاءت من جزيرة العرب"، وقرأ جورج نصار ورقة الباحث اللبناني الياس قطار التي تحمل عنوان "التاريخ العربي بين مقاربتين: فيليب حتي وألبرت حوراني".

خصّص رشيد الخيون ورقته لتجربة المؤرخ جواد علي الذي "يُعدّ من طبقة المؤرّخين المرموقين في تاريخ العرب قبل الإسلام، إذ أصدر فيه موسوعتَي تاريخ العرب قبل الإسلام والمفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ثم تاريخ العرب في الإسلام، لكنه لم يُصدر سوى السيرة النبوية (1961)".

وقال الخيون إن جواد علي أراد تغيير الفكرة التقليدية والدينية عن العرب في الجاهلية، أو تاريخ العرب قبل الإسلام.

من جهته، خصّص عبد الرحمن شمس الدين ورقته لكمال الصليبي، الذي قال إنه اكتشف أرضاً جديدة للتوراة؛ وهو بذلك الاكتشاف يقدّم حلولاً عظيمة لمشكلات طالما اعترضت، ولا تزال، علماء التوراة في رسم خريطة صحيحة لحوادث التوراة. لكنه يشدّد على أن الصليبي "لا يبحث في الجغرافيا التاريخية للتوراة".

اختُتمت الجلسة الرابعة والأخيرة من المحور الأول بورقة الياس قطار التي قاربت تجربتي فيليب حتي وألبرت حوراني. تجربتان يؤكّد قطار على اختلافهما؛ إذ ينتمي الأول إلى المدرسة الأنغلو- أميركية الكلاسيكية، في حين استقى الثاني أفكاره من مدرسة التأريخ الاقتصادي - الاجتماعي الفرنسية.

يعزو نصار الاختلاف بينهما إلى التحوّلات التي طرأت على علم التاريخ خلال نصف قرن من مدرسة التأريخ الكلاسيكية المتأثّرة بالتأريخ الوضعي إلى مدرسة "الأنال" والتوجّهات الاقتصادية الاجتماعية في علم التاريخ.

المساهمون