في الثالث والعشرين من يونيو/حزيران، وفي الخامسة مساء، يتحول الأفق للون البرتقالي إيذاناً في غروب متأخر جداً في الدول الإسكندنافية، يتدفق الشعب، صغاراً وكباراً، ومن كل المستويات الاجتماعية، نحو شواطئ وضفاف المياه والغابات حيث تنصب "المحارق" وفي أعلاها ينتصب مجسم لامرأة تسمى "الساحرة/المشعوذة".
ثقافة تنتشر في دول الشمال الإسكندنافية (السويد والدنمارك والنرويج ومعهم آيسلندا وجزر الفارو وبنسبة ما فنلندا)، وتحافظ على مستوياتها منذ قرون، وفيها الأنثى متهمة بويلات عاشها أسلاف هؤلاء الملتفين حول حرائق بدء الصيف في زمننا الحداثي إيذاناً بـ "الانقلاب الشمسي" في بلاد الفايكنغ.
ملاحقة الساحرات، ليست ظاهرة إسكندنافية فحسب، فهي ممارسة كانت شائعة في وسط وجنوب أوروبا وخصوصاً في الفترة الوثنية قبل وصول المسيحية إلى تلك الأراضي. لكل مدينة وقضاء وقرية، وأبرشية صغيرة ساحرتها، هكذا كانت الأمور وهكذا يستذكرها الإسكندنافيون من بوابة الدنمارك. ويسجل تاريخ ملاحقة المرأة أول اعتراض في عام 1602، على يد القس الألماني أنطون برايتوريوس من خلال كتابه "عرض شامل عن السحر والشعوذة"، وفيه عارض اضطهاد وتعذيب المرأة.
قصة السيدة مارين سبليد
زوجة الخياط لاوريس سبليد في منطقة "ريبه" في جنوب غرب شبه جزيرة غوتلاند، وهي الأكبر من بين جزر البلاد، ولدت في عام 1600، وأحرقت في 1641. هي "الساحرة والمشعوذة" والمرأة المضطهدة الأشهر في تاريخ الدنمارك. كانت مارين برجوازية وثرية مقارنة بنساء كثيرات في محيطها، وأدارت حانة في ذات المنزل الذي عاشت فيه مع زوجها الخياط. عُرفت بذكائها واستقلاليتها وقوة شخصيتها، أمر لم تكن مجتمعات تلك العصور تقبله من أنثى. مارين لم تقبل أن يهيمن عليها المجتمع الذكوري، وفي سن الـ36 اتهمت من محيطها الذكوري بأنها مشعوذة.
وتشير المراجع في المكتبة الملكية الدنماركية إلى أن "الغيرة/ الحسد" في المحيط الحرفي لزوجها، وتحديداً من "الخياط ديدريك" المنافس، هي التي أدت بها إلى هذا التصنيف.
اشتهرت قضية مارين بسبب تدخل الملك في قضيتها. ديدريك قبل وفاته عانى هزالاً وتقيّأ كتلاً. وقد ادعى أنها وامرأتين أخريين قمن باقتحام غرفة نومه، ثبتنه، ونفخت هي في فمه. أخذ المدعون تلك الكتل كـ"دليل إدانة على السحر بعد أن نفخت في حلقه".
بينت مداولات محكمة تلك السيدة وحرقها عن مدى تغلغل ثقافة الإيمان بأن النساء، وخصوصاً من كن يختلفن عن السائد في العادات والتقاليد الشائعة في عصور متعددة، لسن سوى "مشعوذات وساحرات ومجذفات". توسلات زوج مارين إلى الملك "كريستيان الرابع" كشفت تورط الأخير في إشاعة ودفع الناس للإيمان بتلك الخرافات. كان كريستيان الرابع، ومن خلال ممثله في كل مدينة وناحية، يصدق على أحكام الحرق وفي ساحات عامة وأمام مباني البلديات، و بالرغم من أن محلفين آخرين برأوها وأيدوا إعادة سمعتها الطيبة، فقد أصر ممثل الملك على الحكم الصادر بحرقها.
امتزج الحكم المطلق لكريستيان الرابع مع ثقافة الخرافات والاضطهاد التي سمحت بالتعذيب بحق النسوة لنزع اعترافات، ويعتبر البعض من الكتاب والمؤرخين بأنه كان وسيلة لشرعنة التعذيب، وهو ما جرى مع مارين التي أُخذت إلى العاصمة كوبنهاغن وانتزعت منها اعترافات ورطت 6 من النساء الأخريات اللاتي لا علاقة لهن بأي من التهم الموجهة إليهن، وهن تعرضن بدورهن لذات التعذيب ليشين بأخريات لا ذنب لهن.
جدل الاعتذار
يتوقف المؤرخون أمام قصة "مارين" لأنها فضحت العلاقة بين الحكم المطلق وتحالفاته مع الكنيسة والخوف المنتشر بين الفقراء، على الأقل هذا ما يستخلصه كتاب ومثقفون في عصرنا ومن العصور السابقة.
في ظل الاحتفاء باتهام الأسلاف لشعوب إسكندنافيا للمرأة بالشعوذة والسحر، تجد الكاتبة والمحاضرة الدنماركية دانيي دروهيلد (وهي تقدم نفسها كساحرة) في نسخة 2016 للاحتفال السنوي التقليدي لـ"حرق الساحرات" بأنه يجب إقامة متاحف ونصب لمن حرقن بتهم تبين أن أغلبها غير حقيقي.
"دورهيلد" ترى بأن المرأة في عصور مختلفة ذهبت ضحية رفض استقلالها اقتصاديا، فمارين سبيلد "كانت كبش فداء لأنها رفضت التحرش الجنسي، ولإعاقة فصل انطلاق الحركة النسوية. هي حرقت لأنها مثلت قوة المرأة ووضعها مبكراً حداً لأن تكون سلعة في معتقدات شعبية غير متسامحة على الإطلاق. وحتى يومنا ما يزال الناس يؤمنون بأن الساحرات موجودات، فهو أمر لم يكن موجودا وغير موجود الآن، ربما في والت ديزني حيث الساحرة المسيحية تهيمن على الصورة، لكن ليس في واقعنا. إن إقامة نصب تذكاري سيحمل جملة: نعتذر.. كنتن ضحايا حرب مسيحية مقدسة".
ما يلفت في ثقافة المساءات الصيفية، عام بعد عام، أنها مساءات اجتماعية ويجد فيها البعض متعة، فبعد حرق الساحرات يلتف الناس حول النار ليغنوا أغنية "منتصف الصيف": "كل مدينة لها مشعوذتها.. وكل أبرشية ساحرتها.. وبكل سعادة نريد حرقهن على لهب النار.. نحن نحب بلدنا.. وبالسيف في يدنا على العدو أن يعرفنا.. في السهول وعلى الشواطئ سنشعل نار أجدادنا.. نريد السلام هنا في بلدنا.. أيها القديس هانس.. أيها القديس هانس..".
تختلف النخب الدنماركية فيما إذا كان يجب الخروج باعتذار عن تاريخ الحرق والاضطهاد، فرغم ان البعض منهم/منهن يرغبون في تقديم ذلك الاعتذار وإقامة نصب تذكاري، فإنك تجد مثقفين معروفين يرفضون ذلك. فالكاتبة والقس المعروفة سورينا غوتفريدسين ترفض فكرة الاعتذار بالقول للتلفزة الوطنية: "أعترف بإيجابية الهدف من طرح الفكرة بالاعتذار وإقامة نصب، كفعل أخلاقي لموقف من مآسي الماضي المرتكبة، لكن علينا الانتباه حتى لا نضع أنفسنا في ذات العربة مع مرتكبيها في الماضي، فالأفضل أن نعترف بأن الإنسان يتطور في حاضرنا.. ونحن بالتأكيد نرفض حرق الناس اليوم لكنها ليست مهمتنا أن نقدم اعتذاراً عن أفعال أجدادنا.. فلو أردنا الاعتذار بنصب تذكاري سيكون علينا بناء الكثير منها... فباسم المسيحية ارتكب الكثير ما لا يمكن الافتخار به، لكنها ليست مهمة الكنيسة أن تصبح سلطة تقديم اعتذار عن الماضي.. لكنني أوافق على إقامة متحف عن حرق الساحرات فعلينا كحداثيين أن نتذكر ما حصل في الماضي".