تُعتَبر حملة نابليون على مصر (1798 - 1801) إحدى أبرز المحطّات في تاريخ الاستشراق في القارة الأوروبية. خلال هذه المرحلة، ظهرت الأعمال الأولى لعددٍ من التشكيليّين الذين مثّلت المستعمرات، بالنسبة إليهم، موضوعاً أساسياً في فترة صعود التيار الرومانسي وتأثيره في الأدب والفنون.
أسّست تلك الرسومات لصورةٍ ظلّت تتحكّم بمخيّلة الأوروبي لزمن طويل، بوصفها التمثيل "الحقيقي" للبلدان المستعمَرة وشعوبها. نلمس ذلك في أعمالٍ مثل: "عند مدخل معبد أبو سمبل" لـ كارل وارنر، و"استراحة الجيش الفرنسي في أسوان" لـ جون شارل تارديو. لم تعكس تلك الأعمال افتتان هؤلاء الرسّامين بطبيعة الشرق وحياة شعوبه وأمكنته المقدّسة فحسب، بل مجّدت انتصارات القادة الغربيين في المستعمَرات.
رغم أن بعض الفنّانين سافروا أثناء الحملات العسكرية، أو بعدها، إلى الشرق، لرصد تلك الفضاءات من منظور إكزوتيكي؛ كما فعل الفرنسيّان أوجين ديلاكروا (1798 - 1863) الذي أقام في الجزائر والمغرب سنوات عدّة في أكثر من جولة له، وجان ليون جيروم (1824 - 1904) الذي زار مصر والهند، إلّا أن كثراً منهم تخيّلوا "شرقاً" أو "جنوباً" خاصاً بهم؛ حيث جاؤوا إليه بتصوّرات "مسبقة" طُلب منهم تقديمها على الكانفاس.
"لوحات من بعيد" عنوان معرضٍ افتُتح في الثلاثين من الشهر الماضي ويتواصل حتى السادس من كانون الثاني/ يناير من العام المقبل، في "متحف برانلي – جاك شيراك" الباريسي، ويضمّ حوالي مئتي عمل أغلبها غير متداول، ويعود إلى الفترة الممتدّة بين أواخر القرن الثامن عشر ومنتصف القرن العشرين.
يُشير منظّمو المعرض، في تقديمهم، إلى أن المجموعة المعروضة تعكس لقاءً مع الآخر، لكن في غير مكانه، مما يشكّك في رؤية أصحابها الذين يبدو أنهم يتعاطون مع "مجهول" لم يعرفوه، خصوصاً أن عدداً كبيراً من الفنانين الأوروبيّين، وفي غمرة التوسّع الاستعماري المتسارع لبلدانهم، خضعوا لإغواء الغرائبية في عوالم حلمية ظنّوا أنها لا تتنمي إلى الواقع، ثم انخرطوا في تحويل خيالاتهم إلى دعاية تبرّر الهيمنة على العالم.
في القسم الأوّل من المعرض، يحضر بول غوغان بلوحته الشهيرة "امرأتان من هاييتي" التي يُبرز فيها النصف العاري من جسدَي امرأتين وهما يحملان الورود، وهنري ماتيس في عمله "نافذة من هاييتي" الذي يصوّر أشجاراً تتوارى خلفها سفينة من الأسطول الفرنسي، وغيرها من الأعمال التي تحتفي بالطبيعة الملوّنة وبدائية أبنائها.
يتضمّن القسم الثاني بورتريهات لأشخاص من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية ومشاهد من الحياة اليومية، فتُصوّر أعمال جورج كاتلين السكّان الأصليين في القارة الأميركية، مع تركيزٍ على دور العبادة من مساجد وزوايا وصوفية في العالم الإسلامي، كما في رسومات إميل برنار لمدينة القاهرة، والتي أثّرت في توّجهات عددٍ من روّاد الفن المصري، وإنجي تيسيه التي رسمت عشرات الشخصيات في الشرق كالأمير عبد القادر الجزائري.
ويُصوّر القسم الأخير المعارك التي خاضها الأوروبيّون لاحتلال الشعوب، كما في لوحة ليون كونيي التي تحمل عنوان "معركة أبو قير".