"لسان" سعود الدرمكي العجيب

07 سبتمبر 2020

سعود الدرمكي .. بصمة كوميدية خاصة في الدراما العُمانية

+ الخط -

رُزئ الوسط الفني العُماني، قبل شهور، في الفنان سعود الدرمكي.. فقدٌ يصعب تعويضه، خصوصا في ظلّ "السبات" الذي يشهده قطاع الدّراما حاليا، بعد رفع الدعم عنه، ما أصابه بـ"سكتة قلبية" صار معها في حاجة مُلحّةٍ إلى "إنعاش"، ماليّ، وكلنا أمل في النقلة الوزارية الجديدة أن تعيد الدراما العُمانية إلى سابق عهدها، بل أن تدفعها إلى آفاق جديدة، كما هو الحاصل، على سبيل التمثيل، في الدرامتين، الكويتية واللبنانية، اللتين تشهدان تطورات ونقلات جديدة.
ترك سعود الدرمكي بصمته الكوميدية الخاصة في حوارات الأعمال والمسلسلات التي شارك فيها. وبغضّ النظر عن درجات الاتفاق أو الاختلاف بشأن "نمطه" الخاص الذي أثار ردود أفعال متباينة، فذلك لا يمنع من الإقرار بأن طريقته في الكلام "غزت" دولَ الجوار التي "قلّد" عديدون من فنانيها تلك الطريقة العُمانية الفكِهة في الحديث التي كرّسها الراحل الدرمكي بصبر وإصرار فنّان أصيل ومبدع صادق.
ظلت الدّراما العُمانية تعاني بشدة من غياب "هوية" لحواراتها إلى أن سطع في سمائها نجم سعود الدرمكي، ذلك القادمُ من العمق العُماني، من الداخل، وتحديدا من ولاية إزكي، غارفا من أعماق البيئة ومفارقاتها وملحتها، حيث خرج بلسانٍ مزج فيه انفعالات السّخرية والمرح بالجدّ في أحاديث العُمانيين، فحواراته صارت "مارْكة" مسجّلة باسمه، بعدما أضفى عليها مسحته الخاصة التي حلّ بفضلها مشكلا حقيقيا كانت الحوارات في الأعمال العُمانية تعاني منه. وبفضل "أسلوب" سعود الدرمكي، صار لذلك النوع من الحوار مريدون وتلامذة، وانحلت بالتالي "عقدة" ذلك الإحساس بـ"الدونيّة" وبالخجل من اللهجة العُمانية، بما يكتنفها من بلاغةٍ شعبيةٍ ومُضمَراتٍ ساخرة، تعامل معها الدرمكي بسجيته، سيما في طريقة تقليده كبار السنّ. وربّما كانت هذه النقطة تحديدا ما "أغضب" بعض الجماهير، حين ظنّوا أنه "يَسخر" من اللهجة العُمانية القحّة، من دون أن يضعوا في حسبانهم أنّ الكوميديا هي هكذا في جانبٍ منها.. ولا بأس هنا من استحضار سلسة "مرايا" للسّوري ياسر العظمة التي قلّد فيها مختلف اللهجات السورية بطريقة ساخرة، من دون أن يكون قصده التقليل منها أو الحطّ من شأنها، بل البحث عن أهمّ خصائصها الفكهة والمضحكة، والاشتغال عليها ونفض الغبار عنها.
بغضّ النظر عن الانتقادات التي تعرّضَ لها من بعضهم، فقد تعامل سعود الدرمكي مع اللهجة العُمانية، لهجة عُمّان الداخل، بجدّية ربما لم ينتبه إليها كثيرون ممن "هاجموه"، فهو لم يكن يقصد السّخرية من هذه اللهجة أو التقليل منها، وإن كان بعض سكان الخليج تلقفوا بعض تعبيراتها من خلال حواراته، وبدأوا يمُجّونها ويؤكّدون أنها غير جديرة بأن تتجاوز حدود عُمان. لكنه كان يدرك أن هذا الانفتاح على لهجات الداخل كان ضروريا. وعلى الرغم من كل التأويلات والانتقادات، ظل سعود مصرّا على مساره الكوميدي الخاص، وهو يتعامل مع مشروعه بجدّية تامة، تلك الجدّية التي تعني، في جوهرها، الإضحاك والتسرية، والإخلاص بالتالي للمسار الكوميدي الخاص الذي اشتقه في مسار حياته، معتمدا على إمكاناته الفطرية في تلوين الأصوات، ورفدها بما يناسبها من حركاتٍ وتلويحات وإيماءات. وأتذكّر أني كنتُ، مرّة، في مقر الإذاعة للقاء أو فقرة ثقافية، وكان في الأستوديو قبلي سعود الدرمكي وزميلة له في حوار ضمن مسلسل إذاعي.. جلست في كرسيّ في الخلف أنتظر أن ينتهيا، من دون أن أُبعد عنهما عيني. وعاينتُ كيف كان الدرمكي يبذل جهدا كبيرا في تحويل نبرة صوته من مقامه الاعتيادي إلى المقام الذي عُرف به في أعماله. كان يفعل ذلك بجدّية وصرامة وملامح تعكس الجهد الذي يبذله من أجل ذلك؛ فعلى الرغم من أن النبرة كان يجب أن تخرج بطريقة تُضحك جماهير المستمعين فقد تطلّبت جهدا مضنيا وجدية كاملة من هذا الممثل الاستثنائي. بل كان في كل مرة يُعيد الحوار، إلى أن يصل إلى التسجيل الذي يرضيه. واتضحّ لي أنه كان أيضا مخرج ذلك المسلسل فوق تجسيده ذلك الدور فيه. لبثت أتابعه وهو يكرّر المشهد مرارا ولا يقتنع، حتى بدأ القلق يساورني بأني سأنتظر طويلا، وذلك ما حدث.. ثم غادر الأستوديو، أخيرا، باشّ الوجه، وهو يعتذر لي على تأخيري كل ذلك الوقت، قلتُ له إني سعدتُ بمتابعته قبل الجميع فأطلق ضحكة صادقة. رحمه الله.

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي