"لديكُم رسالة ما"

01 اغسطس 2014
قصفت الطائرات منزله في حلب (خالد خطيب/فرانس برس/Getty)
+ الخط -

ارتكبَ جنحة أوصلته إلى سجن الأحداث. في المكان الجديد صبية كثيرون. يشبهون أولاد حيّه في حلب. لم يصادق أحداً منهم. بحث عن زاوية يحشر نفسه فيها. كان ذلك أكثر ما يحتاجه. لا يدري ما الذي دفعه إلى مخالفة قوانين البلد الجديد الذي وجد نفسه فيه لاجئاً. أراد الانتقام لطفولته. ضاقت به السماء والأرض. صار يكره الفراغات والفضاءات. لا يرى فيها إلا احتمالاً لطائرة متوحشة، تأتي لتلقي قنابل الموت وترحل، قبل أن تعود مجدداً. أراد سقفاً لا يتغيّر لونه ولا يقع ويتحوّل إلى ركام. كان يتساءل إن كان هناك جدران غير قابلة للكسر. كره شروق الشمس وغروبها. كره كل ما اعتادوا الاعتماد عليه لرصد حركة الطائرات.

وصل إلى السجن صباحاً. تقوقع على نفسه في الزاوية التي اختارها. ظل على هذه الحال ساعات طويلة. حاول زملاؤه عبثاً التحدث إليه. لكنه لم يكن يسمع إلا هدير الطائرات. حاول سدّ أذنيه من دون جدوى. حلّ الليل. نام الجميع. هو أيضاً غفى في زاويته. جاءه الكابوس عينه فراح يصرخ. تكرّر الأمر في الليلة الثانية والثالثة والرابعة.. كانوا جميعاً في المنزل في حلب. كان يمسك بيد شقيقته الصغرى، ويراقب والديه ينظران إلى بعضهما بعضاً بقلق. هطلت الصواريخ فوق رؤوسهم. ماتوا جميعاً. رأى أجسادهم تتمزّق وتستسلم.  

قاطع النوم حتى لا يزعج رفاقه. مع ذلك، كان ينتظر الليل بلهفة. لم يفهم أحد هذا اللغز. أما هو، فأراده أن يكون سره. تزوره والدته وتمسّد على شعره. يخبرها أن المشهد الذي حوّلهم إلى ركام لا يفارق مخيلته. لا تردّ. لكنه يرتاح لرؤيتها تخرج من الدمار، وتنشّف الدم عن جسدها. 

يسألها من دون أن تجيب: هل شعرتم بالألم؟ هل ما زلتِ تطهين لأخوتي "اليبرأ"؟ أنا أحبه أيضاً. لا آكله هنا. أصلا لا طعم له. لم يفهم سبب بقائه على قيد الحياة. تقول له المعالجة النفسية إنه "لا بد أن يكون لديك رسالة ما".

---

ترقد شيماء المصري، ابنة الأربع سنوات، في مستشفى "الشفاء" في غزة. صواريخ مشابهة سقطت فوق رؤوس عائلتها. ماتوا جميعهم أيضاً وبقيت هي. خوف وصراخ وأشلاء وموت. هذه هي مفردات طفولتها الأولى. تُبدّل مطارحها فقط في مخيلتها الصغيرة من دون أن تغادرها أبداً. أصلاً لن تغادرها بعدما تداخلت بين وعيها ولاوعيها. باتت محاصرة بينهما.

قد يكون لشيماء أيضاً رسالتها. لكنها في نهاية المطاف، رسائل محملة بالدم. حتى العلاج النفسي لا يمكن له محو الصور والألم الذي يكبر هؤلاء الأطفال من خلاله. ربما لن يكون هناك رسائل سوى الانتقام. 

المساهمون