قوة التعبير، ربما يكون هذا هو الوصف الأقرب، والذي يظل معك بعد أن تخرج من مشاهدة فيلم "لا تكن سيئاً" للمخرج الإيطالي كلوديو كاليغاري (1948 – 2015)، والذي رحل العام الماضي في مثل هذا الشهر، بعد الانتهاء من تصوير فيلمه هذا بأيام قليلة، فقد كان يصارع المراحل الأخيرة من السرطان وهو ينجزه.
إذن فهو فيلم صنعه رجل يحتضر. كيف ستظهر هذه الحالة في العمل؟ تذهب إلى الصالة وفي رأسك هذه الفكرة، حيث عرض في بيروت أول من أمس في سينما "متروبوليس" ضمن تظاهرة "سينما البندقية بيروت"، والتي تقام بالتعاون مع "بينالي البندقية".
افتتحت التظاهرة بفيلم كاليغاري، والذي وصل إلى الترشح ضمن أفضل أفلام أجنبية في أوسكار هذا العام، وتدور أحداثه في أوستيا إحدى ضواحي روما في 1995، الضواحي العنيفة، والتي لا تظهر في البطاقات التذكارية والصور الشائعة عن روما، إنها ضاحية العنف ومحاولات جني المال السريع.
يطرح الفيلم أسئلة حول شراكة الفرد المهمّش، القادم من طبقة أبناء الضواحي العنيفة؛ كيف يمكن تحقيق هذه الشراكة في ظل غياب كامل للفرص؟
أسئلة لا يحاول الفيلم الإجابة عليها، بل يقدّمها متضمّنة في قصة شابَّين صديقين في بداية العشرينيات سيزار (يقوم بدوره لوكا مارينيللي) وفيتوريو (يقوم بدوره أليساندر بورغي).
تحت كاميرا كاليغاري، يعيش الشابان والمتفرّج تلك الواقعية المزعجة، يحرّك صاحب "حب سام" (الذي تم تصويره في نفس مواقع تصوير هذا الفيلم) من خلالها الأحداث التي تتغذّى على إدمان الاثنين على حبوب الهلوسة ليعيشا حالة من الانتشاء سرعان ما تكشف عن الغضب الذي يأكلهما من الداخل.
يفتعلان المشاجرات في الملاهي الليلية ويرتكبان الجرائم الصغيرة ويخوضان في سباقات سيارات خطرة وجنونية، أي أنهما يسيران في طريق مزوّد بكل أدوات تدمير الذات الفردية والاجتماعية في آن.
لكن يحدث أن تظهر ليندا (تقوم بدورها روبيرتا ماتّي) في حياة فيتوريو، والذي يبدأ في التفكير بالتغيّر فيأخذ مسافة من سيزار، بينما الأخير يواصل الغرق، إلى أن تتغيّر الأحداث مرة أخرى، وتبدأ المفاضلة بين شعورين حقيقيين وعميقين: الصداقة مقابل الحب.
"لا تكن سيئاً" أو non essere cattivo هو عمل لمخرج لم يقدّم للسينما الإيطالية سوى ثلاثة أفلام روائية فقط (لديه أعمال وثائقية) اعتبرها النقاد وقفات مهمة في السينما الإيطالية المعاصرة، أوّلها كان "حب سام" (1983) الذي حصل على الجائزة الكبرى لـ "مهرجان البندقية" آنذاك، وبعده قدّم "رائحة الليل" (1998).
في "حب سام"، والذي كان عن الحياة اليومية للمدمنين، قدّم الفيلم الذي اعتُبر من أفلام الـ (Cult)، فرصة لظهور المقاومة عبر الثقافة التحتية، أي معارضة كل ما يسود في السينما وتقديم عكسه.
وفي فيلمه الأخير هذا، حاول كاليغاري أن يعيد إعلان بيانه السينمائي الذي قدّمه في الأول، وهو تمثيل طبقات وجماعات مغيّبة تعيش داخل المجتمع الكبير الذي لا يراها، وتقديمها سيميائياً وسلوكياً وبصرياً وأيديولوجياً.