يحتاج القارئ إلى التقدّم في صفحات رواية "كنداكيس.. ستنا بت عجيل" لأحمد المصطفى الحاج، حتى ينكشف له مغزى الاسم "كنداكيس"، الذي يجمع بين اسم بلقيس، ملكة سبأ، وكنداكة، لقب ملكات النوبة، لا سيما حين تُنَبِّه الرواية إلى التشابه بين سبأ، وسوبا، عاصمة آخر الممالك النوبية في السودان، بكل ما تزخر به هذه الأسماء من إشارات وإحالات تاريخية.
وبالتالي، على قارئ هذه الرواية الفائزة بـ"جائزة الطيب صالح للإبداع الروائي" في دورتها الحادية عشرة والصادرة حديثاً عن "مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي"، أن لا يتوقع سرداً مباشراً، وثيمات معتادة، ورموزاً سهلة التأويل؛ إذ لا محمولات بسيطة يحيل إليها ذلك الاستخدام مفتوح الدلالة للّغة عند الحاج، الذي يعد من أصوات القصة السودانية البارزة في سبعينيات القرن الماضي.
فمن مطلع النص، تحيلنا اللغة القرآنية الكثيفة التي تروي رحلة هدهد سليمان إلى مملكة بلقيس ـ الكنداكة، من وجهة نظر الهدهد، ثم لغة "ألف ليلة وليلة" باذخة التفاصيل، المستخدمة لوصف أحداث ما بعد تسليم الخطاب؛ إلى جو أسطوري بمسحة قدسية خفيفة، تكسرها من حين إلى آخر تفاصيل اليومي في حوار ستنا بت عجيل ـ في زمن آتٍ ـ مع زوجها، والنَّفَس الأسطوري للسذاجة الريفية في تجاوب ستنا مع أصوات طيور القمري. لكن سرعان ما يحملنا الراوي خارج الزمن، وبلغة ترتفع وتيرتها كلما توغلنا في القراءة، نحو مزجٍ غرائبي شديد الوقع بين الأزمان والأحداث والشخصيات في تمثّلاتها المتعددة.
وابتداء من حادثة غرق بنتَي ستنا التوأم في النيل، أثناء طقس نوبي تلا ختانهما، ينعطف السرد نحو مقصده حثيثاً، مستصحباً معه قصة انهيار سد مأرب في اليمن وتفرّق القوم، في توظيف مغاير للتاريخ. إذ يقترح الحاج سيناريو مغايراً للأحداث التاريخية يبني عليه رحلة "خروج" للناجين من انهيار السد وصولاً إلى مستقرهم في أزمانهم المتعددة والمتداخلة في أرض السودان، مصوّراً الآثار التي بذروها على طول خط الرحلة.
رحلة تقودنا إلى المشهد المركزي في السرد، إلى الكهف الذي دخله قائد جماعة الناجين، كاتشاب، حيث يغرق في أحوالٍ تستعيد قصة "سفر التكوين" التوراتي، وقصة ألواح موسى، قبل أن تذهب الإحالات في النهاية إلى إنتاج أسطورة الروائي الخاصة التي تؤكد الأصل المشترك لسكان البلاد؛ إحالات تفضي إليها أسماء الشخوص مثل نوبو، محسة، بعانخلو. وفي أحيان أخرى، يوظّف الحاج الموروث الشعبي بأمثاله وأساطيره للغاية نفسها، وهو الموروث الذي نجده يتمدد على طول الرواية وصولاً إلى مشهد الكهف الذي تُملى فيه الوصايا على كاتشاب ويُلان له الحديد وتُسخّر له الريح.
نشير أخيراً إلى أن الرواية، على قلة صفحاتها (105)، تحمل عدداً كبيراً من الرسائل التي تظهر أحياناً أو تحتجب خلف كثافة الرموز والإشارات التي استدعاها الحاج من تاريخ يمتد آلاف السنين، ليقول: "كلنا واحد".