"كلاب" و"كعب" وعرب
لست "قبّانياً" لأردّد مع نزار: "أنا يا صديقة متعب بعروبتي"، بل على النقيض من ذلك تماماً، إذ كنت مؤمناً، دوماً، بأنني من قوم "كعب" و"كلاب"، ويحق لي أن أفخر بما افتخر به جرير، وهو يهجو الفرزدق: "فلا كعباً بلغت ولا كلابا". كما أنني كنت أول من استجاب لدويّ رصاصة الثورة العربية الكبرى وهي تنطلق من "قريش"، لاستعادة الشخصية العربية التي محتها جرافة "التتريك"، على الرغم من أن أمير الشعراء كان يستنجد بالأتراك، لاستدعاء خالد بن الوليد، ولو بالقبعة الأوروبية التي دخلت الحياة العثمانية، مع قائد الحداثة التركية، مصطفى كمال أتاتورك، بدل الطربوش، فكان أحمد شوقي يستصرخ خالد التركي بندائه البائس: "يا خالد التّرْك جدّدْ خالد العرب".
غير أني لم أعد أجد، اليوم، قاموساً يقبل أن يجمع بين دفتيه مصطلح العروبة، بمواصفاتها البلهاء الجديدة، بعد أن تم وأدها بدون الصلاة عليها، من مهدها في قريش، مروراً بحقبة شبابها في القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت، وصولاً إلى لحدها في إسطنبول. ولست أعاني من خلل قوميٍّ، إذا اعترفت، الآن، بأنني ما عدت أقيم للعروبة وزناً في الحياة العربية، بعد أن فقدت وهجها، وأضحت عبئاً أكثر من كونها رافعة للشعوب المبعثرة على بضع وعشرين جثة جغرافية، ممتدة من المحيط إلى الخليج.
أما الأنكى، (وهذا بيت القصيد هنا)، فهو أنني ما عدت أعتب على تململ الأقليات التي تعيش في "أكناف" العروبة، ولا أقاوم رغبتها في انتزاع شخصياتها القومية والفكرية واللغوية والجغرافية، إذا شاءت، من نفق العروبة المظلم. نعم، يحق لتلك الأقليات أن تنسحب من "زبد" الأكثريات التي تتداعى على نفسها، قبل أن تتداعى عليها الأمم من كل الجهات، وأن تطالب بحقها في النجاة بقومياتها من "قومية" عربية، لم تعد قادرة على حمايتها، كما حدث مع مسيحيي الموصل، وأيزيديي سنجار. ومن حق تلك الأقليات أن تطالب باستقلالها، بعد أن ارتضت العروبة لنفسها أن تتمزق إلى عشرات الأقطار التي تعجز عن حماية حدودها بغير "كعوب" المارينز وسفنهم وطائراتهم، و(ما حدا أحسن من حدا). ويحق لتلك الأقليات النجاة بعقولها من عقول مثقلة بإرث غامض من الهلوسة والشعوذة وتقديس القائد والزعيم. عقول تأبى أن تدخل الحداثة بغير السيف والبعير، ومن حقها النجاة بفضائها الذاتي من أقبية القمع والمعتقلات التي لم يفلح زعماء العروبة ببناء أي صرح سواها، بذريعة حماية "القومية" من الأعداء، من دون أن يقدموا تفسيراً واحداً لمصطلح الأعداء الذين لم يكونوا، في الواقع، غير أرتال شعوبهم التي أدمنت القهر والاستبداد، إلى حد جعلها ترى في السوط قريناً للحكم الصالح، وفي رغيف الخبز المتدحرج أقصى نافذة للحرية المشتهاة.
ما أقلّنا، نحن العرب، بكثرتنا في هذا الزمن، وما أكثر الأقليات بقلّتها وهي تكافح للخلاص من حقب الرعب والخوف التي أخضعناها لها، وحين أزف أوان الجد سحبنا بساطنا العربي من تحت أقدامها، وتركناها في العراء، تفرّ من رعب أشد وأبلى، على يد "داعش" وأخواتها.
لا أدري لماذا أخلص، أحياناً، إلى أن هذه الأمة لا يمكن أن يجمعها شيء البتّة، وأن بذور الفتنة والفرقة تولد معها، ولا تموت معها، وإن حدث وجمعها فكر أو دين معين، فإنها سرعان ما تستدعي كل مخزونها التفتيتي والتجزيئي، لتمزق هذا الفكر والدين إلى أشلاء تتلاءم وحجم فتاتها نفسه، كما حدث مع الإسلام الذي تفرق إلى مذاهب وشيع أكثر من أن تعد أو تحصى، ولكل مذهب، بالطبع، "فعله الذي يسبق قوله"، متمثلاً بحوار الرصاص فقط. وفي المحصلة، غدت عوامل وحدتنا هي نفسها عناصر فرقتنا، من لغة ودين وجغرافيا وتاريخ وهوية.
غفر الله لشاعرنا جرير.