"كفرناحوم"... أربعة أطفال يعيشون المأساة نفسها

04 ديسمبر 2018
يؤكد الفيلم أن الفقر هو أصل الشرور (فيسبوك)
+ الخط -
قدمت المخرجة اللبنانية نادين لبكي في أحدث أفلامها "كفرناحوم" الخليط الإنساني نفسه الذي عرفته أفلامها السابقة، والذي كان سبباً في تهافت مهرجانات دولية على أفلامها، ولا شك في أن ذلك كان سبباً مباشراً في حصول الفيلم على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي الدولي، ثم حصوله قبل أيام على جائزة أفضل فيلم طويل في مهرجان "أجيال" السينمائي في الدوحة.

كنت حريصا على مشاهدة الفيلم بعدما تابعت على مدار أكثر من شهرين حالة من الجدل التي أثارها داخل لبنان على خلفية سياسية، أو بالأحرى طائفية، وما يهمني في الفيلم، هو موضوعه الإنساني، وأسلوب تقديم هذا الموضوع، فضلاً عن العناصر الفنية الأساسية من تمثيل وتصوير وموسيقى وإيقاع وغيرها.

بعد العرض الوحيد للفيلم الذي حضره، في دار السينما في قطر، عددٌ كبير نسبياً من الأشخاص، كانت آثار الدموع واضحة في أعين كثير من الجمهور، ومعظمهم سوريون ولبنانيون، بسبب المشاهد المأساوية التي ضمها الفيلم، حتى أن البعض اعتبر تلك المشاهد مقصودة لاستدرار التعاطف، وهذا لا يعيب الفيلم، بل على العكس هو أحد أسباب نجاحه.

الطفل "زين" هو محور الفيلم الأساسي، ومن خلال قصته المروعة انتقلت نادين لبكي لاستعراض عدد من المآسي الأخرى التي لا تقل فداحة عن مأساة الطفل الذي ينتمي إلى فئة "مكتومي القيد"، وهم أشخاص لا يملكون أوراقاً ثبوتية، وبالتالي لا يمكنهم ولوج المدارس أو الحصول على العلاج، وغير ذلك من الخدمات الحكومية.

يعيش زين وأشقاؤه الخمسة مع والديهم في الحي الفقير على هامش الحياة، لكن الطفل الذكي يحاول التحايل على كل الظروف ليوفر لنفسه ولإخوته بعضاً من الكرامة في ظل تقاعس والديه عن ذلك، ربما لأن قسوة الظروف أكبر من قدرتهما على التحمل، وفق محاولتهما للتبرير في أحد حوارات الفيلم.

يرفض الطفل زواج شقيقته (11 سنة)، ويحاول إقناع أبويه بعدم تزويجها، لكنه يفشل لأنهما اتخذا قرارهما بمنح الطفلة لابن صاحب المنزل مقابل البقاء في المنزل الضيق الذي يؤوي العائلة. عندها يقرر "زين" مغادرة المنزل غاضباً، لتبدأ سلسلة أخرى من المصاعب المتشابكة مع قصص آخرين.

كانت نادين لبكي جريئة في طرح قضية هؤلاء الذين يعيشون على هامش الحياة، والذين لا تلتفت إليهم الحكومات، لكنها كانت مغامرة بطرح قضية الخادمات الإثيوبيات الشائكة في المجتمع اللبناني؛ فالفتاة الإثيوبية "راحيل" قررت الاستغناء عن أوراقها الثبوتية حتى لا تفقد طفلها الذي أنجبته من علاقة غير شرعية، ولجأت إلى أحد المزورين ليمنحها أوراقاً تخولها البقاء في لبنان بصحبة ابنها، في حين حاول المزور- طويلاً- إقناعها ببيع ابنها له.

انخرط "زين" في حياة "راحيل" وابنها، ربما بسبب تقارب الظروف، ثم حاجته إلى من يؤويه، وحاجتها إلى من يرعى ابنها خلال فترة عملها، لكن فترة الهدوء انتهت سريعاً باعتقالها بتهمة عدم امتلاكها رخصة تخولها العمل، ما دفع الطفل زين بعد محاولات مضنية لرعاية ابن راحيل إلى التخلي عن الطفل للمزور.

خلال فترة الهدوء، برزت قصة ثالثة للطفلة السورية اللاجئة التي تبيع المناديل أو الزهور وغيرها لمن يقودون السيارات لتجمع المال الذي يمكنها من تحقيق حلمها بالهجرة إلى السويد، ورغم أن تلك القصة لم تأخذ حيزاً واسعاً في الفيلم، إلا أن تعبيرها الطفولي عن أحلامها يعبر عن جيل من الأطفال الضائعين، فكل آمالها في الهجرة تتمثل بحسب قولها في منزل خاص بها يمكنها أن تغلق بابه بنفسها، ويتاح لها فيه أن تسمح لمن تشاء أن يدخل وتمنع من تشاء من الدخول.

لم تكتفِ نادين لبكي بتلك المآسي الثلاث، إذ قذفت في وجوه جمهورها المأساة الرابعة التي مهدت لها في بداية الفيلم، فالطفلة "سحر"، شقيقة زين، التي زوّجها أهلها قسراً، ماتت على أبواب المستشفى الذي رفض استقبالها حين كانت تعاني من النزيف بسبب الحمل في سن مبكرة، وكان سبب رفض علاجها عدم امتلاكها أوراقاً ثبوتية.

يؤكد الفيلم أن الفقر هو أصل الشرور، وأحد أهم أسباب الكثير من الجرائم، فالطفل يسرق ويروج المخدرات، ثم يحاول قتل الشاب الذي يعتبره مسؤولاً عن وفاة أخته، قبل أن يقرر مقاضاة والديه اللذين يعتبرهما سبباً مباشراً في المأساة التي يعيشها هو وإخوته.

كان يفترض بالفيلم أن يهتم أكثر بقصة "سحر" التي كانت سبباً مباشراً في تطور الأحداث، بداية من هروب بطله، ثم دخوله السجن، إلى تحول قصته إلى قضية إعلامية، لكنها رغم ذلك ظهرت مهمشة، فشاهدنا والدها يجبرها على الذهاب إلى منزل زوجها، ثم انقطعت أخبارها، قبل أن نعرف لاحقا أنها ماتت على أبواب المستشفى.

يمكن أيضاً ملاحظة الافتعال الواضح في جعل زين نجماً إعلامياً من خلال المكالمة الهاتفية من داخل السجن بأحد البرامج التلفزيونية، وهذه الواقعة من الصعب تصورها في الواقع، والتي كان يمكن إيجاد بديل درامي لها، لكن يبقى لصناع السينما حق اختيار طريقة الطرح التي تناسبهم، حتى إن لم تعجبنا.

تشابك القصص المأساوية للأطفال الأربعة، "زين" وشقيقته "سحر"، وصديقته اللاجئة السورية وابن راحيل الرضيع، يجعل فيلم "كفرناحوم" يستحق الاهتمام، رغم بعض مواضع الوهن، إذ قدمت نادين لبكي المشكلة الإنسانية في إطار سينمائي جيد، ووفق إيقاع درامي يجذب الانتباه، ولا يخلو من موسيقى معبرة، وتقنيات تصوير محترفة.

لكن أداء الأبطال الأطفال، يظل أكثر الأمور تميزاً، وعندما تعرف أن هؤلاء الأطفال لم يسبق لأي منهم التمثيل، فإنك عندها تدرك المجهود الكبير الذي بذلته لبكي في تدريبهم وإدارتهم للوصول إلى هذا المستوى المتميز الذي يقارن بأداء مميز للممثلين المحترفين المشاركين في الفيلم.

المساهمون