لو أن الأمر متعلق بحديث حول منع نشر كتاب في بلد عربي ما، من المؤكد أن التفسيرات ستذهب إلى أن ذلك انعكاسٌ لقمع متأصّل في الذهنية العربية أو تمظهر لترسّبات الوصايات الأبوية، وسيستهزئ معظمهم من قرار بإيقاف طبع كتاب في زمن الشبكات الإلكترونية، ووقتها سيقارن كثيرون بين شرقٍ مغلق ومشدود إلى الوراء وبين غربٍ متنوّر حقّق كفاياته من الحرّيات ولا خوف من الارتداد عنها.
المفارقة أننا - منذ بداية 2016 - حيال قضية متعلقة بالرقابة على المطبوعات في "عواصم الحرية" ذاتها، إذ إن دخول كتاب "كفاحي" في أوّل أيام السنة الجارية إلى مجال الملكية العامة، وسقوط تلك الحيلة البيروقراطية التي وُضعت لمنع الكتاب من التداول (كانت حقوقه مسجّلة لفائدة مقاطعة بافاريا) قد أربك الألمان وأدخلهم في متاهات سجالٍ متشعّب، قبل أن يتعمّم الأمر إلى جيرانهم وهم يقفون أمام الإشكالية ذاتها، مع إعلان دور نشر كثيرة بأنها تنوي طبع الكتاب.
لكن علينا هنا ألا ننسى أن كل هذا الجدل يتحرّك في مساحةٍ مرسومةٌ حدودُها بعنايةٍ، فالنص الذي يتسابق البعض على طبعه ويصرّ آخرون على منعه يعرف كيف يصل إليه كل من يبحث عنه.
التخوّف من "كفاحي" لا يتعلّق فقط بمضمونه، كون الكتاب يدعو إلى العنف، وإنما يتعلق أيضاً بتعقيدات أوروبا اليوم، فالحركات اليمينية وجدت نفساً جديداً في العقد الأخير، ما جعل البعض يخمّن بأن كتاب هتلر قد يعرف حياة ثانية، خصوصاً وأن الزعيم النازي لا يزال يحتفظ بأشكال متنوّعة من الشعبية في أوساط عديدة من مختلف الأجيال.
عامل آخر يتداخل في هذه القضية وهو نشاط مجموعات ضغط يهودية، لها سطوتها الثقافية والإعلامية، لإبقاء الكتاب بعيداً عن التداول الجماهيري، ثم ينضاف إلى كل ذلك موجات بشرية أتت مؤخراً من الشرق، ما ينبئ باحتكاكات مركّبة فوق أرض القارة العجوز.
الأكثر خطورة هو صعود الرعب على السطح مجدّداً إثر العمليات الإرهابية المتكررة التي ينفّذها متشدّدون. لزمن طويل، كانت النازية، والتطرّف العرقي عموماً، أنموذج العدوّ المطلق، قبل أن توجّه الأنظار إلى المتطرّف الطبقي، وها أن البوصلة تستقر اليوم على المتطرّف الإسلامي. مع عودة الجدل حول "كفاحي"، ثمة خيوط كثيرة تلتقي ببعضها وهو ما يربك عملية صناعة الخطاب العام.
رفع شعار "محاربة الدعوة للعنف" الذي يتضمّنه كتاب هتلر يضيء بشكل انعكاسي ذلك العنف غير المسيطر عليه في الخطاب الإعلامي الغربي والذي يجري استهلاكه بقوة منذ سنوات. كما يلفتنا إلى فضاء الأفكار المتداولة اليوم بصفة عامة، أفَلا تحظى مقولات مثل صدام الحضارات (صامويل هنتنغتون) أو تيارات كالاستشراق الجديد (برنار لويس) بتداول نشيط رغم ما تتضمّنه من نعرات استعلائية ومن دعوات ضمنية (وأحياناً صريحة) للعنف؟
هكذا يبدو الجدل الذي نُصب حول "كفاحي"، وكأنه يوقظ الكتاب أكثر ويوجّه الأنظار باتجاهه. هنا، لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا بأن البروباغندا النازية هي التي صنعت جماهيرية الكتاب الكاسحة سابقاً أكثر من قدرات النص الإقناعية.
بالعودة إلى سياق الأحداث، كان "معهد التاريخ المعاصر" في ميونخ قد كسر الجدل بادئ الأمر حين كان أوّل من التقط فرصة تحرير الكتاب فأصدر طبعة جديدة. طبعة لم تلق رواجاً كبيراً حيث احتوت على تعليقات تاريخية (ثلاثة أضعاف النص الأصلي)، ما جعلها تشبه قراءة توجيهية للقرّاء، وهو الأمر الذي ذهب بالجدل في اتجاهات جديدة.
نبدو عربياً خارج هذا السجال، ولكنه على الأقل يلفتنا إلى تلك الترجمة الرائجة لكتاب "كفاحي" (أنجزها لويس الحاج). نعرف أنها طبعة غير شرعية، وأنها باتت عتيقة، فهل يمكن أن تفي بما يتطلبه قارئ اليوم؟ من زاوية معرفية، يبدو حضور هذه النصوص الإشكالية، برهاناتها وخلفياتها، شكلاً من أشكال الحضور المتجدّد في العالم، خصوصاً وأن جزءاً من تاريخنا خرج من معطفها.