ليلة شديدة البرودة من ليالي الثورة المصرية في ميدان التحرير قبل تنحي مبارك عن الحكم. يسري في المكان دفء غريب، ربما بفعل الزحام أو الحماس، وربما كان من أثر مئات قنابل الغاز المسيل للدموع التي تزكم الأنوف.
يضم الميدان عشرات الآلاف عادة، معظمهم معتصم يقضي أيامه ولياليه بالمكان محتمياً ببطانية أو خيمة، أو يتدفأ بنار يشعلها مع الرفاق.
الجميع منهكون متوترون، لكن أغلبهم لديه إصرار عجيب على عدم التخلي عن المبدأ الذي صمد من أجله أمام رصاص الأمن واعتداء البلطجية لأيام.
معظم المتواجدين ينتمون للطبقة الفقيرة، وبعضهم إلى الطبقة المتوسطة؛ بعضهم موظفون أو حرفيون ينفقون من مرتباتهم البسيطة على أسرهم، وبينهم طلاب ينفق عليهم أهلوهم، ومعهم أيضاً عاطلون عن العمل.
معظم المعتصمين نفدت أموالهم، وسرت بينهم حالة من غياب مقومات الحياة اليومية الطبيعية سببها الأول "تفليسة" إجبارية.
فكرة خطرت ببال شخص غير معروف؛ ظل غير معروف؛ ونقلها عنه بعفوية كثيرون، كنموذج لمئات من الأفكار التي عرفها الميدان، الفكرة على بساطتها عبقرية، وعلى سهولتها كانت كفيلة بإنهاء أزمة.
حمل صديقنا الثائر المجهول فجأة "كرتونة" ورقية صغيرة، وبدأ يطوف الميدان قائلاً للمارة والجالسين: "لو معك فلوس ضع منها في الكرتونة. لو ليس معك خذ منها ما يكفيك".
هكذا ببساطة تحولت "الكرتونة" الصغيرة إلى وسيلة لسد حاجات المفلسين، وطريقة آدمية ليمنح الميسورون الموجودون في الميدان رفاقهم المعسرين المال؛ دون أن يشعر هذا بفضل، أو يشعر ذاك بإيذاء لكرامته.
انتشرت الفكرة سريعاً في الميدان، وكانت سبباً في دعم بقاء البعض، ومنحهم احتياجات بسيطة بينها الطعام والسجائر على وجه الخصوص.
لكنها لم تستمر طويلاً، فالمخلوع مبارك ذهب إلى غير رجعة، وتوافدت الناس من أنحاء البلاد إلى الميدان، وتمكن المعتصمون أخيراً من العودة إلى بيوتهم ليطمئنوا على ذويهم وينعموا بنوم هادئ طويل وحمام دافئ حرموا منه نحو ثلاثة أسابيع متواصلة.
عاد المصريون إلى الميدان لاحقاً مرات عدة، لكن "كرتونة التحرير" لم تظهر مجدداً، وإن بات هناك وعي أكبر بتدبير وسائل استمرار الاعتصام.
لا زال المشهد محفوراً في ذاكرتي رغم مرور أكثر من خمس سنوات؛ كونه يجسد الكثير من المعاني ويدلل على ذكاء واحترام البسطاء لأنفسهم وللآخرين، مقابل تجبّر وتسلط وظلم وفشل نظام حكم صور له غباؤه أنه دمر قدرة البسطاء على الثورة، ليكتشف لاحقاً، ومعه العالم، أن المصري البسيط قادر على الثورة، وأن خضوعه في فترة ما لا يعني أن صمته سيستمر إلى الأبد.
اقــرأ أيضاً
يضم الميدان عشرات الآلاف عادة، معظمهم معتصم يقضي أيامه ولياليه بالمكان محتمياً ببطانية أو خيمة، أو يتدفأ بنار يشعلها مع الرفاق.
الجميع منهكون متوترون، لكن أغلبهم لديه إصرار عجيب على عدم التخلي عن المبدأ الذي صمد من أجله أمام رصاص الأمن واعتداء البلطجية لأيام.
معظم المتواجدين ينتمون للطبقة الفقيرة، وبعضهم إلى الطبقة المتوسطة؛ بعضهم موظفون أو حرفيون ينفقون من مرتباتهم البسيطة على أسرهم، وبينهم طلاب ينفق عليهم أهلوهم، ومعهم أيضاً عاطلون عن العمل.
معظم المعتصمين نفدت أموالهم، وسرت بينهم حالة من غياب مقومات الحياة اليومية الطبيعية سببها الأول "تفليسة" إجبارية.
فكرة خطرت ببال شخص غير معروف؛ ظل غير معروف؛ ونقلها عنه بعفوية كثيرون، كنموذج لمئات من الأفكار التي عرفها الميدان، الفكرة على بساطتها عبقرية، وعلى سهولتها كانت كفيلة بإنهاء أزمة.
حمل صديقنا الثائر المجهول فجأة "كرتونة" ورقية صغيرة، وبدأ يطوف الميدان قائلاً للمارة والجالسين: "لو معك فلوس ضع منها في الكرتونة. لو ليس معك خذ منها ما يكفيك".
هكذا ببساطة تحولت "الكرتونة" الصغيرة إلى وسيلة لسد حاجات المفلسين، وطريقة آدمية ليمنح الميسورون الموجودون في الميدان رفاقهم المعسرين المال؛ دون أن يشعر هذا بفضل، أو يشعر ذاك بإيذاء لكرامته.
انتشرت الفكرة سريعاً في الميدان، وكانت سبباً في دعم بقاء البعض، ومنحهم احتياجات بسيطة بينها الطعام والسجائر على وجه الخصوص.
لكنها لم تستمر طويلاً، فالمخلوع مبارك ذهب إلى غير رجعة، وتوافدت الناس من أنحاء البلاد إلى الميدان، وتمكن المعتصمون أخيراً من العودة إلى بيوتهم ليطمئنوا على ذويهم وينعموا بنوم هادئ طويل وحمام دافئ حرموا منه نحو ثلاثة أسابيع متواصلة.
عاد المصريون إلى الميدان لاحقاً مرات عدة، لكن "كرتونة التحرير" لم تظهر مجدداً، وإن بات هناك وعي أكبر بتدبير وسائل استمرار الاعتصام.
لا زال المشهد محفوراً في ذاكرتي رغم مرور أكثر من خمس سنوات؛ كونه يجسد الكثير من المعاني ويدلل على ذكاء واحترام البسطاء لأنفسهم وللآخرين، مقابل تجبّر وتسلط وظلم وفشل نظام حكم صور له غباؤه أنه دمر قدرة البسطاء على الثورة، ليكتشف لاحقاً، ومعه العالم، أن المصري البسيط قادر على الثورة، وأن خضوعه في فترة ما لا يعني أن صمته سيستمر إلى الأبد.