تحيل رواية "كتاب الماشاء" للكاتب الجزائري سمير قسيمي، بعنوانها الفرعي "هلابيل.. النسخة الأخيرة"، بالضرورة إلى رواية "هلابيل" التي صدرت للكاتب قبل سنوات، كما لو كانت الرواية الجديدة تتمّة للأولى، لكن، وفي الوقت نفسه، تمكن قراءة كل منهما بمعزل عن الأخرى.
يبدأ العمل، الصادر مؤخراً عن "دار المدى"، عندما يُكلّف جوليان برقمنة أرشيف أعداد المجلة الإفريقية من عام 1856 حتى العدد الأخير. ويحتفظ بنسخة من الفهرسة التي تصل من خلال أحداث الرواية إلى مؤرخة فرنسية، لتكتشف محاولات إخفاء كل ما يتعلّق بالمؤرخ الحربي سباستيان ديلاكروا.
من هنا، تبدأ رحلة البحث التي تقودها في النهاية إلى اكتشاف النبي المجهول الوافد بن عبّاد، ووثيقة هلابيل، الابن غير الشرعي لآدم الذي وُلد بين السماء والأرض. يمكن للقارئ أن يتتبّع قصة البحث عن النبي المجهول ورسالته التي تنتقل عبر المهمّشين والمنبوذين، من أبناء غير شرعيّين وقتلة، وعاهرات، كل الشخوص التي يزدريها محيطها ولا يرغب أحد في أن يكونها. يؤكّد قسيمي من خلال روايته المتشعّبة على أهمية الهامش لتكتمل حلقات الحياة، وكأن الخطأ والنقصان هما عين الكمال الإنساني.
للوهلة الأولى، تبدو الرواية كما لو كانت عملاً سردياً تاريخياً، مع شيء من الحبكة البوليسية، تعود إلى تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر، والتناقض الذي يبدو بين الأهداف الخفيّة وتلك المعلنة للمستعمر، لا سيما وأن قسيمي يورد بعض الأحداث الحقيقية مثل مجزرة "العوفية"، التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي عام 1830.
لكن هذا لا يعني ولا يكفي لأن نصنّفها عملاً تاريخياً، فالتاريخ فيها ليس ذاك الذي نعرفه، بل إنه مزيج من الأحداث التاريخية الحقيقية مع تاريخ آخر متخيّل للأشياء والشخوص؛ ليخرج الكاتب في النهاية برواية تحكي تاريخاً موازياً لقصة الخلق.
تقع الرواية في منطقة وسطى بين الحقيقة والفانتازيا، مثلاً نجد الكاتب يوظّف جزءاً من تاريخ طائفة الأسينيين التي تحدّث عنها مؤرّخو الرومان؛ وترد في العمل تحت اسم طائفة سيراخ، غير أن طقوس هذه الطائفة في الرواية تنتقل عبر القرون، حتى تتلبّس أتباع الوافد بن عباد؛ نبيّه المجهول.
تُثير الرواية صراعاً بين حكاية مكرّسة بالفعل في التاريخ والكتب السماوية، وحتى أغلب أساطير الخلق المتعارف عليها، وبين حكاية الخلق من وجهة نظر الرواية التي تختلف مع ما جاء في الكتب والأديان السماوية، متيحة لقارئها فرصة التفكير في كل معارفه المؤكدة عن قصص التاريخ، والتساؤل عن يقينية الحكايات التاريخية في مجملها. هل ما نعرفه بالفعل هو التاريخ الحقيقي الذي حدث، أم هو مجرّد وجهة نظر لمن دوَّن الحكايات؟ يقف القارئ في نهاية الرواية على حافة، تتأرجح بين الشك واليقين.