باريس، بلا شكّ، مدينة لها علاقة عريقة ومتشعّبة مع الكتاب. "عاصمة الأنوار" تضمّ أماكن ثابتة هي منهل محبّي القراءة فيها، أبرزها أرصفة "السين" بالقرب من "كنيسة نوتردام"، ومكتبات متلاحقة في شارع "سان ميشال". لكن، يحدث أن تأخذ تظاهرة طارئة محبّي الكتب إلى أماكن أخرى من المدينة، تحديداً إلى "بورت دو فيرساي"، جنوب العاصمة، حيث يقام هذه الأيام "صالون باريس للكتاب"، أو كما يفضّل الجميع في فرنسا تسميته بـ"كتاب باريس".
انطلق المعرض رسمياً في 15 من الشهر الجاري، وفتح أبوابه للعموم بعد يوم، ليستمر حتى مساء اليوم، أي إنه لا يدوم سوى أربعة أيام وأربع ساعات (الافتتاح كان في الخامسة من مساء الخميس).
الاختصار الزمني يرافقه أيضاً اختصار في الحيّز المكاني، ذلك أن المعرض يبدو صغيراً للغاية مقارنة بما ينتظره زائر يبني توقعاته على مركزية باريس في عالم الكتاب منذ قرون، فلا يضمّ الصالون سوى قاعة وحيدة، وإن زائراً عربياً قد يجد أن معارض تعتبر متوسطة الحجم في خريطة المعارض العربية تكبره مساحة مثل "معرض تونس" أو "الإسكندرية".
ولهذا "الصغر" أسباب عديدة، أوّلها أن المعرض بالفعل "طارئ" على مشهد الكتاب في باريس، فلم يتأسّس إلا في 1981 بدفع حكومي واضح، ضمن محاولة لفرض باريس كمحطّة أساسية في روزنامات دور النشر العالمية، غير أن ذلك لم يتحقّق بنسبة كبيرة، فقد ظلّ بعيداً عن إشعاع معارض "فرانكفورت" و"لندن" و"مدريد"، وهو ما دفع إلى وضع استراتيجية جديدة منذ سنتين جعلت المعرض بشكله الحالي؛ مناسبة ربيعية في باريس تحاول أن تضع الثقافة الفرنسية -من خلال الكتاب- في لحظة تنافسية، ربّما كي تشعر دائماً بتجدّد شبابها، كما تفعل معظم الباريسيات.
لكن صغر مساحة المعرض له تفسيرات أكثر موضوعية، فهو انعكاس طبيعي لمشهد النشر الفرنسي والعالمي، والذي شهد مع بداية القرن الحالي هيمنة مؤسّسات بعينها على سوق النشر، فالجزء الكبير من صناعة الكتاب في فرنسا ينحصر في ست مؤسسات عملاقة لا تفتأ تقضي على كل الدور الصغرى والمتوسطة أو تضمّها إليها، بعض هذه المؤسسات الكبرى فرنسية تاريخية مثل "هاشيت" و"غاليمار" و"سوي"، وبعضها الآخر فروع من مؤسّسات عالمية مثل "إيديتيس" فرع العملاق الإسباني "بلانيتا".
يتجلّى هذا الوضع في هندسة المعرض، فقلما نجد دور نشر صغيرة مستقلة بأجنحة خاصة بها، هي إما أجنحة في غاية الزخرفة التصميمية لتلك المؤسسات الكبرى، أو مجمّعات لدور نشر جرى ترتيبها بحسب المناطق الفرنسية، ويمكن أن نصنّف ضمن المجمّعات معظم المشاركات الأجنبية، ومنها العربية حيث تحضر أجنحة خاصة بتونس وقطر والجزائر وغيرها.
تتفق كل هذه المشاركات في كونها تنأى عن اللهاث خلف الجانب التسويقي (إنه معرض بلا تخفيضات!). لكن هذا التوجّه الموحّد له أسباب مختلفة، فكثير من الأجنحة هي مجرّد تسجيل حضور، كل شيء فيها ثابت طوال أيام المعرض، من الكتب إلى المشرفين عليها (هكذا جلّ المشاركات الرسمية). وهناك أجنحة دور النشر المجمّعة التي لا تطمح كل مؤسسة منها سوى إلى لفت الانتباه من خلال منتوج ثقافي متين أو أساليب ذكية في العرض، فهي لا تقوى على مصاريف دعاية عالية.
أما الدور الكبرى، فإن المعرض لا يمثّل لها فرصة تسويق بما أنها تحتكر نقاط البيع الأساسية على طول السنة، لذا فإن أكثر ما تهتم به في "كتاب باريس" هو تحويل مؤلفيها إلى أيقونات ونجوم، إذ تضعهم في صور عملاقة وتقدّمهم في أشرطة فيديو أو تدعوهم لمحاضرات يبدو فيها كل شيء موضباً مثل فيلم أميركي، كما ترتّب مواعيد توقيع كتب لهم بعد دعاية مدروسة ليجد المتجوّل في المعرض الكثير من الأروقة وقد تعطّل فيها السير بسبب صفوف طويلة هنا وهناك من القرّاء الذين ينتظرون دورهم لأخذ توقيع من كاتب اقتنوا آخر إصدارته.
كل ذلك لا ينفي عن المعرض إيجابيات عدّة، فهو في أيامه المعدودة ومساحته الضيّقة، يضم قرابة ثلاثة آلاف فعالية، بين محاضرات ولقاءات وتقديم كتب وغير ذلك من الأنشطة "المرئية"، والتي يأتي خلفها ما هو أكثر حيوية؛ إنها تلك الأسواق العالمية المفتوحة لشراء حقوق التأليف والترجمة والنقل إلى فنون أخرى. لحظة تتنفّس فيها الثقافات الهواء ذاته، طبعاً تلك التي لها القدرة على التنفّس في مرتفعات صناعة النشر.
الكتاب، في معرضه الباريسي، لا يبدو محتضراً، أو مرتجفاً من صعود التكنولوجيا، إذ يبدو ذلك رجع صدى بعيد، فلا أحد يتطرّق إلى هذه الهواجس. على العكس، نجد المجال متاحاً أساساً للإشارة إلى الفتوحات الجديدة التي يحقّقها الكتاب، عبر تكنولوجيات القراءة المستحدثة التي تلحق سنين الطفولة الأولى بجمهور القراءة، وتتيح أعوام قراءة أكثر للمسنّين. نجد، في العديد من اللقاءات المبرمجة، احتفاء بالكتاب في مواقع التواصل الاجتماعي، وامتناناً لجيل من مصمّمي فيديوهات على اليوتيوب الذين اختلقوا طرق عرض جديدة للروايات والكتب الفكرية، واستشرافات حول "مهن الكتاب" مستقبلاً، وتطرّقاً جريئاً إلى تكلفة النشر على البيئة.
روسيا هي ضيف شرف الدورة الحالية من "كتاب باريس"، وقد احتلّت فيه مساحة تكاد تناسب مساحتها في خريطة العالم، ومن الواضح أن بلاد بوشكين قد استعدّت جيّداً للحدث، فقد خصّصت زاوية من جناحها لعرض عدد كبير من الإصدارات الحديثة مترجمة إلى الفرنسية، كما لا يتوقّف في فضاء النقاشات حضور كتّابها على مدار اليوم. في كلّ ذلك، يبدو أن الشهية السياسية المفتوحة التي عُرفت بها روسيا في السنين الأخيرة تقابلها شهيّة ثقافية مفتوحة كذلك.
لا يستطيع أحد ألا يرى حضور العرب في الثقافة الفرنسية، وحين يأتي "كتاب باريس" قد نتوقع أنها مناسبة لظهور لا يمكن تحقيقه في معارض أخرى، غير أن النتيجة واحدة، إذ تعجز الأجنحة العربية في لفت الانتباه إليها، فلا يبقى من الحضور العربي سوى أسماء تسلّط عليها دور النشر ووسائل الإعلام الفرنسية أضواءها. في نسخة هذا العام، جرى تكريس المكرّس؛ ياسمينة خضرا وكمال داود هما أكثر الأسماء العربية حضوراً!
أخيراً، تجدر الإشارة إلى أن "كتاب باريس" له "توأم"، إذ تنظم عدد من دور النشر المستقلّة معرضاً موازياً بعنوان "فيرساي أوف" في نفس أيام المعرض الرئيسي المقام في "قصر المعارض بورت دو فيرساي"، وقد أطلق المشرفون حملة دعائية مضادة بعنوان "الكتاب الآخر" متحدثين عن "مقاومة تسليع الكتاب والحفاظ على الاستثناء الثقافي". لكن هيهات، فالآلة الضخمة التي تقف وراء "كتاب باريس" يصعب مشاكستها أو هزّها، وقد تقاطعت فيها مصالح الدولة الفرنسية ونُخبها المكرّسة وشركات عملاقة لا تشبع من تحويل الثقافة والمعرفة إلى أموال.