"كامبريدج أناليتكا" وهندسة العقول

13 ابريل 2018
+ الخط -
أعادت فضيحة "كامبريدج أناليتكا" وتداعياتها السؤال مُجدداً بشأن قدرة الإعلام والدعاية على التلاعب بالرأي العام وتضليله، أو التحكّم به لغايات سياسية. ومع أن هذه القضايا كانت مركز بحث وتحقيق منذ مطلع القرن الماضي، مع تألق مستشار العلاقات العامة، النمساوي إدوارد بيرنز، الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، بعد أن تشرّب أفكار خاله، عالم النفس سيغموند فرويد، ومع ظهور مدارس الدعاية السياسية ونظرياتها، فإن ما كشفته وسائل إعلام أميركية وبريطانية في مارس/ آذار الماضي، عن تلاعب "كامبريدج أناليتكا" بتوجهات الناخبين خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية أخيرا، عبر اختراق حساباتهم الخاصة على موقع فيسبوك، وتحليل بياناتهم الشخصية، ومن ثم استهدافهم برسائل دعائية مدروسة، نقل النقاش إلى مستوياتٍ تتعلق بمدى خطورة هذه التصرفات على الديمقراطيات الغربية التي تقوم بالأساس على حرية الرأي، وحُرمة الخصوصية الفردية.
في مقاله الشهير "الدعاية" الذي نُشر في العام 1928، كتب إدوارد بيرنز: "التلاعب الواعي والذكي بالعادات المنظمة ووجهات نظر الجماهير عنصر مهم في المجتمع الديمقراطي. أولئك الذين يتلاعبون بآلية المجتمع غير المنظورة يشكلون حكومة غير مرئية، هي القوة الحاكمة الحقيقية لبلادنا. نحن محكومون، عقولنا مقولبة، أذواقنا متشكلة، وأفكارنا مقترحة، إلى حد كبير من رجال لم نسمع عنهم أبداً. هم الذين يسحبون الأسلاك التي تتحكم في العقل العام". ولعل مثال "مشاعل الحرية" هو المثال الأبرز، في تجربة بيرنز لجهة كيفية الـتأثير في مواقف الأفراد والمجتمع. ففي العقد الثاني من القرن الماضي، كان التدخين مُقتصراً على الرجال، فيما ينظر المجتمع بريبة إلى المرأة المدخنة، فاستعان رئيس الشركة الأميركية للتبغ بخدمات إدوارد بيرنز الذي أطلق حملة "مشاعل الحرية"، باستئجار عارضات أزياء، وسار بهنّ في شارع عام وهنّ يدخنّ، ودعا الصحافة لتغطية الحدث، مُدعيا أن ما يجري تحرك نسوي حقوقي. وفعلاً، انتشرت صور التحرّك على أنه "تحرّر نسوي" من القمع الذكوري لحق المرأة في التدخين، وسمّيت السجائر في فم النساء المشاركات "مشاعل الحرية"، وانتشرت الكلمة على أنها رمز "الثورة". وفي المحصلة، نجحت الحملة برفع مبيعات السجائر، وهي الغاية التي كان ينشدها رئيس الشركة الأميركية للتبغ.
مثال آخر على قدرة وسائل الإعلام في التلاعب بالعقول، وقع ذات مساء من العام 1938 عندما توقف البث الإذاعي لمحطة "CBS" الأميركية، وخرج صوت المذيع أورسون ويلز، ليعلن في خبر عاجل عن تعرّض الولايات المتحدة لهجوم من كائنات فضائية. يعود البث مجدّدا لنقل حفل موسيقي من أحد فنادق نيويورك الفخمة، ثم ينقطع البث ثانيةً، ليعود المذيع معلنا بصوت مرتجف عن غزو كائنات فضائية المدينة، ثم يعود البث للحفل الموسيقي. ليلة طويلة قضاها الجمهور ما بين الاستمتاع بالموسيقى القادمة من حفل "القديسين"، والأخبار العاجلة المتواترة عن غزو فضائي، أخذ مراسلو الإذاعة بنقل تفاصيله من موقع الحدث، مع تعليقاتٍ من خبراء في الفضاء والأمن، ونقل بالصوت مشاهد الاستنفار لرجال الشرطة والإسعاف. انقضى الأمر أخيراً، وانتهت حالة الاستنفار، وتبدد الذعر، بعد أن كشفت الإذاعة أن الأمر غير حقيقي، وليس إلا عرضا مستوحى من عمل مسرحي باسم "حرب العوالم". أثار تصرّف الإذاعة ردود فعل غاضبة بين الناس، لكنه أيضا أثار انتباه المهتمين بالدراسات الإعلامية إلى خطورة الإعلام.
ما بين تلاعب بيرنز بجمهور "مشاعل الحرية" لرفع مبيعات السجائر وتلاعب "كامبريدج أناليتكا" بجمهور "فيسبوك"، لرفع أسهم دونالد ترامب، لا يبدو أن شيئا مهماً اختلف في أساليب هندسة العقول والعواطف وأدواتها وغاياتها. بل يبدو أن "الحكومات غير المرئية" صارت أكثر قوة ونفوذا، وصارت عقول الأفراد ومشاعرهم أقل مناعة، وصارت فبركة المعلومات والأخبار أسهل في عصر الإعلام الجديد. وفي ذلك كله خطر داهم قد يحيل أعرق الديمقراطيات إلى جمهوريات موز تتحكّم بها وكالات الدعاية والعلاقات العامة وماكينات فبركة الأخبار، ويحكمها رؤساء مثل دونالد ترامب.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.