تشتبك الأسطورة بالواقع وتتقاطع صورُ الإنشاء بأحداث التاريخ حتى لا ندري أكان كتاب "قصة أسمهان" (دار الجديد، 2019، سلسلة: طبق الأصل)، "سيرة" حقيقية، تخضع لقوانين البحث التأريخي أم مجرّد عمل روائي، امتزج فيه الخيال بالمعيش فحلّق به عالياً.
ففي سنة 1962، أي بعد مضي ثمانية عشر عاماً على رحيل أسمهان (1917-1944)، قرّر فؤاد الأطرش أن يروي، شفاهياً، "قصة" شقيقته نَجلاء. وانبرى الصحافي المصري فوميل لبيب يلتقط ما يحكيه محاورُه، فيحوّله إلى نص أدبي مكتمل. فكان هذا الأثر نتاجَ ذاكرة تتكلم وقلمٍ يَسْطر، حَافظة تستعيد الأحداث وتَسردها بوجدانٍ وعفوية، وعَقل يُرتبها حسب مَنطق السرد وجماليته.
ثمرةُ هذا العمل المشترك خمسة عشر فصلاً، استُعرضت خلالها السيرة العاصفة لهذه الفنانة، منذ أن وضعتها أمها يوم 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، على متن باخرة تمخر عباب البَحر الأبيض المتوسط، إلى أن اصطدمت سفينة حياتها بصخرة الموت، بعد أحداث غامضة، يوم 14 تموز/ يوليو 1944، عشية ماتت (أو قُتلت) في حادث سير عفوي (أو مدبَّر)، حسب افتراضات المتابعين المتناقضة. وبين الزمنيْن سلسلة من النجاحات والخيبات، أبرزها محاولات انتحار، وإسهام فني خارق، بحجمٍ كمي متواضع.
وهكذا، تعدُّ "قصة أسمهان" من أبرز النصوص التي تعالج "أسطورة حية"، وتقدمها في ثوب أدبي ناصع، تكمن فرادته في غرابة الشخصية وإدهاش الأحداث التي أحاطت بها واكتنفتها، فقد عاشت من المصادفات ما لا يتفق مثله إلا نادراً: فمن ذلك نشأتها في جبل الدروز أو "جبل العرب"، بعد خلاف أهلها السياسي مع السلطات العثمانية، ومنها اضطلاعها بدور اجتماعي كبير بين ساكنيه، نمَّ آنذاك عن تعقل فتاة يافعة، تأتّى لها من إرث الإمارة، ومنها ثلاثُ زيجات، إحداها أغرب من الأخرى، باءت جميعها بفشل ذريع، ومنها انتقالها للعيش في مصر وفلسطين ودمشق وبيروت: وهي في كل ذلك، تغني وتَشرب، تصالح وتخاصم، تجادل وتحتال، دون أن تتنكر للمعوزين ولا للأقرباء. كما كُلفت، في ثنايا هذه الأعوام العاصفة، بـ"مهمة سياسية"، واشتغلت مع الحلفاء ضد المحور، أيام الحرب العالمية الثانية.
تكمن فرادة هذا النص في الحس الجمالي الذي استعاد به الصحافي المصري سائرَ الأحداث والتقطها، صغيرةً وكبيرةً، ضمن منطق سردي متوازنٍ، يستفيد من المتاح له من تقنيات السرد المعروفة حينها. فقد وظّف لبيب طاقاته التعبيريّة لاستعادة مراحل هذه السيرة المحيِّرة. بنى منطقَ الأحداث فيها تصاعدياً متسلسلاً، وأداره في سلاسة ووضوح، ضمن خَطّية تاريخية، تراوح بين آليات الرواية التاريخية والسيرة الذاتية والتحليل النفسي. وجاءَ الأسلوب جزلاً، في منزلة وسطى بين الكلاسيكية والغِنائية، لا مثقلاً بصور الإنشاء ولا خالياً من طرائق السرد الحديثة. وقد أدرج فيه فقراتٍ تستأنس بتقنيات الاستبطان النفسي وصندقة الأحداث والتصرّف في أزمانها والتفاعل بين سجلات القول.
إلا أنَّ فرادة الكتاب الأساسية، والتي ربما لم يقصد إليها السارد، تتجلى في تقديم أحد أدق التوصيفات الأنثروبولوجية والاجتماعية التي تتصل بالمعيش اليومي للطائفة الدرزية، في الشام عصرَ النهضة، بما تخفيه من عقائد ورموز وقيم تحكمها وتميّزها عن غيرها من الطوائف. ذلك أنّ الإطار النفسي والسوسيولوجي التي تحرّكت فيه البَطلة مع والدتها وأخويْها فؤاد وفريد ثم مع زوجها، وكذلك مع سائر أصدقائها، إنما هو الإطار الرمزي للدروز، في جَبلهم بالسويداء، في ترحالهم عبر مدن الشرق، في تجمّعهم وفي شَتاتهم، وفق رؤيتهم للحياة والموت، للسعادة والشقاء. وهكذا، تشكل الإحالات العديدة إلى هذه الطائفة مادة أولى، ثرية وأساسية، للتعرّف على النموذج الحضاري الذي يُحرّك هذه الجماعة ويُفسر اختياراتها. من دون هذا الإطار، يعسر فهم سيرة أسمهان وإدراك الرهانات المتناقضة التي حاولت التوفيق بينها. ومع ذلك تبقى نقاط استفهام عديدة، يفرضها تكتم هذه الطائفة.
لذلك، تبقى هذه "السيرة" ملأى بفراغات الغموض والالتباس، وربما تلك خصوصيتها: تُزرَع الشكوك فتنمو حول كل حدث، إلى درجة يقبل فيها القارئ التضحية بالحقائق من أجل التمتع بلوحةٍ منفتحة المعنى، متعددة الاحتمالات. فما ذكره الشقيق فؤاد ليس سوى جزءٍ من "الحقيقة" الضائعة، بين الصمت والغياب. وهل كان "المسكين" قادراً على البوح بكل ما يعرفه من أسرار أخته ومن خفايا اكتنفت مسيرتها الصاخبة، بين حياة متقلبة وموتٍ مدبّر، من تَرف الإمارة إلى عَوز التداين، بين ضياع الأصالة ونعمة الحرية؟
وما قاله لبيب ليس سوى شجرة تُخفي ما في الغابة من أشجار صامدة، أريد لها أن تحمي ما تبقى من "شرف الإمارة" وعراقة الخير وعرفانية "الموحدين". وهذا مما يزيد الأسطورة غموضاً، بل مما يسمح بتولد أساطير أخرى، ستظل تروي هذه التربة وتُغذيها. وإلى يومنا، ما زالت القصص تحاك حول طريقة التخلص من أسمهان: هل هو من فعل المخابرات البريطانية التي اشتغلت لصالحها؟ أم غيرة زوجها الأول حسن الأطرش؟ أم غيلة من أخيها فؤاد، بعد أن بالغت في تدنيس صورة العائلة وارتكاب الحماقات؟
لا جواب في النص ولا خارجه. وهو ما يقودنا إلى سؤالٍ أهمّ: هل نقرأ هذه القصة كما لو كانت رواية تاريخيّة، تعرض "الحقيقة" في مفارقاتها وجزئيتها؟ أم باعتبارها أثراً روائياً متخيّلاً، استفاد من سائر الوسائل السردية واستثمر تنوّع الأحداث التاريخية وغرابتها ثم تصرّف في رسم ملامحها حتى صارت مضموناً فنياً؟
من جهة ثانية، تدفعنا هذه السيرة الفنية إلى التساؤل عن طبيعة "الجنس الأدبي" الذي تنتمي إليه وعن عوامل ظهوره وأفوله. ففي العقود الأخيرة الماضية، لم يظهر فنان يمتلك هالةً غرائبيةً، كتلك التي أحاطت بأسمهان من حيث علاقاتها بالملوك وصلاتها المفترضة بالمخابرات الغربية، وعلاقاتها بالآخرين، فضلاً عن أسرار الإبداع الفني المنطوية.
كما لم يظهر، في الساحة الثقافية، روائي عربي اعتكف تخييلاً وتعديلاً لمسيرة فنانٍ ما، يُخرجها لوحةً جامعةً بين تألق الأسلوب وتشويق الأحداث وروعة التصاوير. ولعل هذا الجنس الأدبي مما ينقص اليوم في المكتبة العربية، مع أنّ في بعض سير الفنانين ما يمكن أن يشكل مصدراً للسرد الأدبي.
هذه سيرةٌ قوامها التيه بين الغَفلة والفن، بين الجاسوسية والمحبة. والتيه من جَوهر الفن ومَعدنه. كيمياء الأحداث فيها صنَعت أسمهان الفنانةَ، وفي ذات الوقت منعتها من التحليق في سماء الإبداع. مفارقة تؤجج نارَ الأسطورة وتبقي الغموض فيها متقداً.