قبل أيام من عيد الفطر، وكما في كل عام، راحت تتفاقم معاناة الفقراء المصريين من أبناء الصعيد لا سيّما العاملين في البناء بنظام العمالة اليومية ومحدودي الدخل. هم لا يملكون وسيلة تقلّهم إلى قراهم وذويهم، إلا قطار "الدرجة الثالثة" الذي يُعَدّ أرخص وسيلة نقل متوفرة، والذي تشبه عرباته علب السردين. الناس يُحشرون فيها، كأن أهل الصعيد جميعهم تركوا قراهم ليستقرّ بهم الحال في هذا القطار. هو "القطار القشّاش" كما يُطلق عليه البعض، نظراً لتوقّفه المتكرّر في المحطات.
قبل وصول القطار إلى محطة انطلاقه الرئيسية في ميدان رمسيس في القاهرة، يكون المسافرون قد احتشدوا على أرصفة المحطة، أملاً في الوصول قبل سواهم إلى كرسي ما، فالرحلة تزيد عن عشرين ساعة. وبمجرّد توقّف القطار، تعمّ الفوضى. يتدافع المسافرون ويحاول بعضهم دخول العربات من الشبابيك، في حين تسجّل اشتباكات في ما بينهم. إلى ذلك، تتحوّل الرفوف إلى مساحات للجلوس أو للنوم. أما دورات المياه، وبالرغم من تهالكها ورائحتها النتنة، إلا أن ركاباً كثيرين يستقرّون فيها. ونجد الركاب أيضاً وقد جلسوا على أرضيات المماشي وأمام الأبواب وبين العربات، الأمر الذي يعرّضهم للخطر. كثيرون هم الضحايا الذين يسقطون على قضبان سكة الحديد لتتحوّل أجسادهم أشلاء. وتبقى المشكلة أن ما من بديل.
و"القشاش" في خارج مواسم الأعياد، وسيلة نقل الفقراء الأرخص بين المحافظات المصرية. يستقله يومياً الآلاف للذهاب إلى القاهرة والعودة منها، سواء للعمل أو في زيارة أو بهدف العلاج. ويلتحم الجميع في داخل عرباته، إذ يفوق الزحام الحدّ المعقول. هو يُعَدّ من أخطر وسائل النقل، ودائماً ما يتذكّر أهل الصعيد الفقراء تلك الحادثة عندما اشتعل بهم القطار قبل أيام من عيد الأضحى، وتحديداً يوم 20 فبراير/ شباط من عام 2002. حينها قضى المئات، بعد احتراق العربات بالكامل.
اقرأ أيضاً: التسوّل.. "كابوس" مصر اليومي
وبهدف نقل المشهد بأمانة، كان لـ "العربي الجديد" رحلة في "قطار الصعيد" الذي يمرّ بمحافظات الصعيد، بدءاً من الجيزة مروراً ببني سويف والمنيا وأسيوط وسوهاج وقنا والأقصر وصولاً إلى أسوان. في عربات القطار، معظم المقاعد مكسّرة وكذلك زجاج النوافذ، الأمر الذي يعرّض الركاب - خصوصاً الأطفال - إلى الإصابة بالأمراض صيفاً شتاءً. وفي تلك العربات، ينتشر الباعة المتجولون، وكلّ ينادي على بضاعته. يُذكر أن السرقة والبلطجة تُسجّلان في رحلات هذا النوع من القطارات. وقد يصل الأمر إلى إيقاف القطار فجأة عن طريق فتح هواء الفرامل. من ثمّ، يعمد بعض البلطجية إلى تهديد الركاب وترويعهم وسرقتهم تحت تهديد السلاح.
إسماعيل شكري عامل بناء بالأجرة وأب لثلاثة أطفال صغار. يقول: "ركوب القطار المكيّف أو الميكروباص قد يكلفني أكثر من 150 جنيهاً (19.16 دولاراً أميركياً) ذهاباً والمبلغ نفسه إياباً". أما العمّ محمود عليوة، فيعمل في إحدى المزارع وينتقل لقضاء العيد مع أسرته في الأقصر. يقول إن "القطار على قدر فلوسنا. حتى ولو كان مكسراً أو غير نظيف، نحن اعتدنا عليه". يضيف: "الفقراء حقهم مهضوم في كل شيء.. لا عمل ولا معيشة ولا حياة طيبة. يبقى ما جَتش على القطار".
أمّ سيّد تقصد القاهرة يومياً لتبيع البيض والفطائر والسمن البلدي. هي تستقلّ القطار من محافظة المنيا. تقول: "الزحام طبيعي في القطار القشاش، لأنه بتاع الغلابة. من غير المعقول أن أركب القطار المكيّف لقاء كلّ ما جمعته". من جهته، يستقلّ الطالب محمد صبحي هذا القطار يومياً، لكنه يؤكد على أنه وزملاؤه "لا نشعر بالأمان. فيه تكثر الشجارات في غياب عناصر الشرطة". ويطالب بعربات خاصة بالنساء، كما هي الحال في المترو. ويشير إلى أنه لا يمانع رفع سعر التذكرة، في مقابل تحسين الخدمة وانتظام المواعيد.
لا يُحسب حسابهم
في الأعياد، يتزايد الضغط في مصر على المواصلات المختلفة، ويزداد اهتمام المسؤولين بالقطارات المكيّفة وأتوبيسات السياحة ومترو الأنفاق. ويُوفّر أكبر عدد من أتوبيسات هيئة النقل العام في القاهرة، للحدّ من الزحام. لكن المواطنين الفقراء لم يسمعوا يوماً باهتمام يولى لـ "قطار الغلابة" الذي يلجأون إليه، نظراً لرخص تكلفة الانتقال فيه إلى بلداتهم لقضاء عطلة العيد مع عائلاتهم.
اقرأ أيضاً: للشقيانين في مصر رمضانهم