"فرنسي" لـ دياستيم: فيلم التطرف الذي يتناساه الغرب

29 يونيو 2015
لقطة من الفيلم
+ الخط -


تعرض الصالات الفرنسية حالياً الفيلم "فرنسي" (Un Français) للمخرج باتريك آستي الملقب بـ دياستيم. أول ما يستوقف في الفيلم هو عنوانه الذي يحيل إلى عنوان مقال كتبه فرونسوا سيرجان رداً على نائب مقرّب من ساركوزي، جاك ميار، كان صرّح أن أوراق محمد مراح الثبوتية هي الشيء الوحيد الفرنسي فيه (مراح هو مرتكب هجمات مارس 2012 في تولوز).

يختصر سيرجان مقاربته بهذه العبارة: "محمد مراح هو وحش بالطبع، لكنه وحش فرنسي، والوحوش يحملون ختم البلد الذي صنعهم". الصلة بين العنوانين ليست بلا مغزى، فالنازي الجديد حليق الرأس هو في الغالب التوأم الطبقي لـ مراح في المجتمع الفرنسي، مع مفارقة أن الأول هو جزء من القاعدة الانتخابية التي يستهدفها ميار حينما ينكر فرنسية الثاني.

يعتمد دياستيم مقاربة واقعية سردية مطعمة بمشهدية العنف النيّء، وهو خيار منتقى بعناية. ففي موضوع حاضر إلى هذا الحد في الراهن الفرنسي، ليست التحليلات هي ما ينقص، بل المسافة الموضوعية.

ماركو نازي جديد حليق الرأس يمضي وقته بالتسكع بصحبة سكّين جزار مع رفاق طفولته من أبناء الضاحية البائسة التي نشأ فيها. تراكم العصابة الاعتداءات الدموية على أبناء المهاجرين المغاربة والسود والمجموعات اليسارية المناوئة، وتدمن تحطيم الحانات والمرافق العامة.

لكن ماركو، حتى حينما يبادر بالعنف ويزايد على رفاقه، يبدو فاعلاً مستلباً وتابعاً مدفوعاً بديناميكية الجماعة. ما يدفعه للابتعاد تدريجياً عن هذا الجو ليست مراجعة فكرية للآراء والقناعات، بل شعورٌ جسديٌ ونفسيٌ بالاختناق.

على سبيل المثال، إثر تنفيسه جام حقده على عائلة مغربية في الباص، تصيبه نوبة عصبية عابرة ولا يعود قادراً على التنفس. وفي مشهد آخر، حينما يلقي أعضاء "الجبهة القومية" (الترجمة الشائعة في الصحافة العربية هي "الجبهة الوطنية") النشيد الوطني على شرف رفاقهم المتظاهرين الذين أغرقوا عاملاً مغربياً في نهر السين سنة 1995، يسارع ماركو بالخروج متذرعاً بالحاجة إلى "تنشق بعض الهواء. هو لا يحاول لمرة واحدة أن يحاجج أو يجادل رفاقه في قناعاتهم، إنما ينسحب بصمت كي لا يختنق بالحقد والعنف.

فكرة الفيلم الألمع تقوم على قلب الأدوار بين البطل والمشاهد: كلما اقتربت أحداث الفيلم التاريخي من اللحظة الحاضرة، كلما وجدنا البطل ينسحب منه ويتحوّل من فاعل مستلب إلى شاهد صامت. لا تعود القصة المروية قصته بل تغدو قصة المشاهدين الفرنسيين.
يأخذ السرد السينمائي شكل مقتطفات متتابعة من سيرة ماركو، تحيل إلى مراحل مختلفة من تاريخ اليمين المتطرّف الفرنسي.

بعد حقبة السجن، نرى بطلنا ورفاقه يرتدون بذلات وربطات عنق في منزل ثري ريفي مقرب من "الجبهة القومية"، وذلك في حفلة مقامة على شرف صديق طفولة لماركو. هذا الأخير، الأزعر صاحب السجل الجنائي الحافل والمقعد إثر رصاصة تلقاها خلال معركة مع مجموعة مناوئة، صار الآن قيادياً في "الجبهة القومية" يحرّض على أبناء المهاجرين.

الإشارة هنا واضحة إلى نجاح جان ماري لوبان في استقطاب فتية الأحياء البائسة البيضاء وإغرائهم بتحالف عرقي وعابر للطبقات مع البرجوازية الكاثوليكية المحافظة وفلول نظام فيشي الهرمة، وهذا على الرغم من تحمّس حزبه للاقتصاد الليبرالوي.

في الحفلة نفسها، يتعرّف ماركو على ابنة أخ الثري التي تصبح لاحقاً زوجته، إلا أنها لا تلبث أن تهجره بعد أن "صار صديقاً للعرب والزنوج" وتستغل سوابقه الجنائية لحرمانه من رؤية ابنتهما. لا يقطع ماركو صلته برفاق طفولته، ويستمر برؤيتهم من وقت لآخر ومتابعة أخبارهم.

صديقه الذي صار نائباً عن "الجبهة القومية" في البرلمان يدفع لاحقاً ثمن التوجّه الجديد الذي تعتمده مارين ابنة جان ماري لوبان إثر تسلّمها لدفة القيادة، فيجري إقصاؤه ويعود لممارسة العنف الشارعي على عكازتين في لمسة لا تخلو من الفكاهة.

تفرض الوريثة مارين لوبان على الكادرات والناشطين استراتيجية تواصل في الظهورات الإعلامية والحملات الانتخابية تقوم على تناسي العداء التقليدي لليهود والتركيز على الإسلام والجينات الثقافية لأبناء المهاجرين عوضاً عن الإحالة مباشرةً لأصولهم العرقية. يترتب على ذلك بداهةً إقصاء النازيين الجدد أصحاب الرؤوس الحليقة والسجل الجنائي الحافل من القاعدة الحزبية.

لقد تغيّرت أولويات الحزب، والمطلوب الآن جيل جديد من الناشطين يكونون أبناء الدولة ويطمحون للفوز بالانتخابات كي يتمكنوا من التنكيل بأبناء المهاجرين والأقليات والخصوم السياسيين من خلال أجهزة الدولة وبوليسها.

في المشهد الأخير، نرى ماركو في مسكنه المتواضع يتابع تظاهرة ضد زواج المثليين على التلفاز، ويرى امرأته وابنته بين المتظاهرين وأقطاب حزب "الاتحاد من أجل حركة شعبية" يمشون يداً بيد مع ناشطي اليمين المتطرف، في إشارة معبرة إلى مستوى الخرق الذي حققته طروحات هذا الأخير في أوساط اليمين التقليدي والجمهوري. يطفئ ماركو التلفاز ويتركنا في شاشة الحاضر.

المساهمون