قبل سبع سنين، وتحديداً في فبراير/شباط 2011، كان شعار "نوضي نوضي يا بنغازي"، هو النداء لكل أهالي المدينة للانتفاض على حكم العقيد الراحل، معمر القذافي.
ودفعت المدينة، في ذلك الوقت فاتورة حريتها، إذ سقط عشرات الضحايا الذين واجهتهم كتائب القذافي بالرصاص، وباتت اليوم ذكراهم في حكم العدم، بل تحولت "كتيبة الفضيل بوعمر" وساحة المحكمة أبرز مناطق انطلاق الثورة لمعاقل عسكرية قوية تقمع أي مناد بالحرية.
لم يتغير الوضع في بنغازي خلال سبع سنوات مضت من اندلاع ثورتها، عندما كان الرصاص يتطاير فوق رؤوس المنتفضين. في ذلك اليوم خرجت جنازة الشهداء الشهيرة التي قضى فيها العشرات، كما انتشر ما عرف بــ"القبعات الصفراء"، وهم عناصر مدنية من الموالين للقذافي وقتها.
وبالعودة إلى أحداث بنغازي، اليوم، لا يزال الرصاص العشوائي مجهول المصدر، سيد الموقف، كما أن تلك العناصر لم تختلف في شيء سوى في نزعها لتلك القبعات.
تشير بعض الصفحات في المدينة المقربة من قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، إلى أن ذكرى "الثورة" لا تعني شيئاً، وترى أخرى أن "هذا اليوم يصادف تفجير أول سيارة مفخخة نفذها الإرهابي مهدي زيو"، في إشارة لواقعة إقدام (زيو) على اقتحام أسوار كتيبة "الفضيل بوعمر" في بنغازي، وتضحيته بنفسه كأول شهيد في الثورة.
في السياق، تعبِّر أسماء.ع، وهي من سكان المنطقة، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن أسفها على أوضاع مدينتها الحالية، قائلةً "بلدية المدينة سمحت بالاحتفال في ذكرى الثورة على نطاق ضيق في ساحة الكيش لذر الرماد في العيون فقط".
وأوضحت أنّه "شعبياً تمكنت الماكينة الإعلامية التابعة للعسكر هنا من ترسيخ مفهوم أن الثوار هم الإرهابيون، وبالتالي تحول الحديث عن الثورة والاحتفال بها إلى معنى التأييد للإرهاب".
بدوره، وصف مهجر من بنغازي ومقيم في طرابلس، في حديث مع "العربي الجديد"، الاحتفال بالثورة كأنه "فرض عين في بنغازي"، مؤكداً أن "ما يحدث انقلاب على الثورة".
ودعا المهجر، الذي تحفظ عن ذكر اسمه، أهالي بنغازي لـ"النظر في حالة المدينة الآن"، قائلاً إنها "تعيش الإرهاب بعينه وليقارنوا بين اليوم وقبل سبع سنين"، مشدداً في الوقت نفسه، على أنّ "روح الثورة لا تزال في صدور الكثيرين لكن صليل السلاح قد عاد اليوم ليكتم أصوات الثوار".
بعد سقوط حكم معمر القذافي عام 2011، شهدت بنغازي انضمام مئات الثوار إلى كتائب مسلحة اتخذت من معسكرات النظام السابق مقرات لها لغرض تأمين المدينة، كما شهدت إقبالاً كبيراً على المشاركة السياسية من خلال انتخابات عام 2012، لكن في الوقت ذاته كانت هدفاً لمحاولات زعزعة استقرارها من خلال عمليات اغتيال واسعة طاولت نشطاء وعسكريين.
وفي منتصف عام 2014، أطلق اللواء المتقاعد خليفة حفتر عملية عسكرية عرفت بعملية "الكرامة"، متخذاً من عمليات الاغتيال في المدينة منطلقاً له، زاعماً رد كرامتهم. وأطلق (حفتر) اتهاماته في الوقت ذاته إلى ثوار المدينة بأنهم من "قاد تلك الاغتيالات ونفذها"، بينما دخلت المدينة من وقتها في حرب ضروس لم تنته إلا في الأشهر الماضية.
وتبدو المدينة اليوم منهكة على كافة الأصعد، وتعاني في كافة المجالات الاقتصادية منها والسياسية، فضلاً عن تردي الوضع الأمني.
على الصعيد السياسي، تبين في خضم الحرب التي عاشتها بنغازي طيلة السنين الماضية، أنها ضمن مشروع سياسي عسكري يتزعمه حفتر، لكنه مشروع أبعد من ليبيا، إذ إن داعميه أطراف إقليمية ودولية، حولتها إلى ساحة صراع دموي ذهب ضحيته أبناء من المدينة وأبناء القبائل المحيطة بها.
أما اجتماعياً، فقد نجم عن حروب المدينة خرق للنسيج الاجتماعي، فالأسر التي ينحدر منها الثوار هجرت بالكامل، وبحسب تقديرات غير رسمية بلغ عددها 10 آلاف أسرة.
ومن جانب آخر، تحولت دماء القتلى خلال الحرب إلى عامل شقاق بين أهالي المدينة وأهالي القبائل التي تقطن جوارها، وكانت ضمن مقاتلي قوات حفتر. كما أن غالبية سكان المدينة لا يزالون نازحين بسبب دمار مساكنهم في أحياء سيدي خريبيش، وسوق الحوت، والصابري وغيرها، وسط تخوف من تحول ديمغرافي خطير إثر هجرة سكانها وتوطنهم في مناطق أخرى.
اقتصادياً، عرفت المدينة بأنها عاصمة ليبيا الاقتصادية، أما الآن فالحرب أتت على كل مقدراتها حيث تحول ميناؤها إلى ميناء حربي، وقلاعها الصناعية إلى مقرات للمسلحين، كما أن مصالح التجار ورجال الأعمال لحق بها الدمار بشكل كبير، مما تسبب في تحول أنشطتهم إلى مناطق أخرى.
على الصعيد الأمني، المدينة تعيش اليوم على وقع فوضى مستمرة تحولت في أشكال متعددة من حروب مباشرة إلى تفجيرات مشبوهة يتهم فيها حفتر من يصفهم بـ"الإرهابيين" بتنفيذها، بينما يتحفظ على نتائج التحقيقات فيها كما حدث في تفجيرات استهدفت مدارس ومركز بنغازي الطبي لتصل، أخيراً، إلى استهداف المساجد، وفي شكل مذابح كمذبحة الأبيار في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
بالإضافة إلى ذلك، فإن غالبية السكان يعانون عدم وضوح الجهات المسيطرة على المدينة التي تتخذ مسميات رسمية كأجهزة الأمن وقوات الردع ووحدات الجيش، لكنها تنتمي إلى جهات معروفة كالقبائل أو تيار المداخلة، أو ما يعرف بالصحوات.
في ذكرى ثورتها تعيش بنغازي غموضا حقيقيا رغم كونها محطة مهمة في مشروع سياسي عسكري، إلا أنها لا تزال عامل ازعاج لكثيرين، فمكونات المدينة وتاريخها الثوري تجعلها المدينة الوحيدة التي تمتلك مؤهلات الانتفاض في أي وقت في وجه الاستبداد.