"عيار ناري": جدل الثورة ينقذ فيلماً متواضعاً

06 أكتوبر 2018
أحمد الفيشاوي ومحمد ممدزح في مشهد من الفيلم (يوتيوب)
+ الخط -
قبل أيام قليلة من عرضه بدور السينما التجارية في مصر، تسبب فيلم "عيار ناري"، باكورة أعمال المخرج كريم الشناوي، في جدلٍ كبير عند عرضه خارج المسابقة الرسمية في مهرجان "الجونة" السينمائي؛ حيث انصب النقاش في معظمه حول موقف الفيلم السياسي، وسرديته الملتبسة عن شاب لم يُقتَل في مظاهرات الثورة المصرية، ولكن تمّ ادعاء كونه شهيداً على يد قناصة الداخلية والأمن.
المفاجأة أن هذا الجدل كان أقرب لطوق نجاة بالنسبة للفيلم، لأنه يجعل الأمر في دائرة رمادية من المواقف ووجهات النظر، وإذا كنت "مع أو ضد" الثورة. بينما ما وراء كل هذا هناك أمر أكبر بكثير، وهو أن الفيلم ضعيف جداً على مستوى الصناعة السينمائية، ومتواضع في كل عناصره ولغته وأداء أبطاله وإمكانيات مخرجه.


يبدأ الفيلم بتأسيس شخصية "ياسين"، الطبيب في مصلحة الطب الشرعي، الذي يبدو يائساً جداً من حياته، ومخموراً طوال الوقت، ولكنه متمكّن من مهام عمله، وتبيان أسباب وفاة القتلى أصحاب الجثث التي تأتي إليه. تتطور الأحداث عند قدوم جثة "علاء"، الشاب الذي يدعي أهله أنه قُتِل على يد قناصة الداخلية في مظاهرات "لاظوغلي" (نوڤمبر/ تشرين الثاني 2011 في ذروة أحداث الثورة المصرية)، ولكن "ياسين" يكتشف، بعد تشريح الجثة، أن القتل حدث بسبب "عيار ناري من مسافة قريبة"، وعندما يكتب ذلك في تقريره، يُثَار جدلٌ كبيرٌ في التلفزيون والصحافة وبين الأهالي، ويتواطأ الجميع من أجل الدفع بـ"علاء" كشهيد، ومهاجمة "ياسين".




قبل أي شيء، من حق أي شخص أن يقدم سرديته عن حدثٍ بضخامة الثورة المصرية. المشكلة الأساسية في هذا الجانب من فيلم "عيار ناري"، هي الكيفية التي يستعرض بها بعض الأحداث والتفاصيل بطريقة مزيفة، وتعارض أي وقائع حدثت حينها، تحديداً في تعامل السّلطة والمؤسسات الرسمية مع شهداء التظاهرات. فحبكة الفيلم الأساسية قائمة على أن "الطبيب" يقف في وجه "الدولة" كاملة (الطب الشرعي وبرامج التلفزيون والصحافة والناس) لينفي أن يكون "علاء" شهيداً، في حين يتواطأون لإثبات ذلك بكل الطرق، ويقيمون حملة ضده بسبب التقرير الذي ينفي حدوث القتل من مسافة بعيدة. بينما ما عايشناه جميعاً أن الدولة كلها في 2011، كانت تنفي وجود شهداء أو قناصة داخلية. وتتعامل مع ضحايا التظاهرات باعتبارهم "بلطجية" (كما يصل الفيلم حول شخصيَّة "علاء" في النهاية)، وبالتالي ليست المشكلة في السردية ومدى معارضتها للثورة، ولكن في أنه يقوم بالكامل على تعامل مزيف مع أحداث ووقائع قريبة جداً.
وبعيداً حتى عن تلك الملاحظة التي تقلل من مصداقية تلقي الفيلم والحكاية والعالم الذي يدور فيه، فالأمر الأهم هو تواضع مستواه الفني؛ بداية من السيناريو، غير القادر على بناء فيلم جريمة مُحكم كما يقدم الفيلم نفسه، ويلجأ لحوار شديد المباشرة والتوعوية وأقرب للمقالات الصحافية على لسان كل الأبطال.



الشخصيات فقيرة ومسطحة، لا نعرف أي شيء عن الصحافية (بطلة الفيلم) أو عن الأبطال المساندين، والعُمق الوحيد الذي حاول السيناريو منحه لشخصية "ياسين" عن طريق علاقته بأبيه كان غير مفهومٍ بالكامل، ولا يتناسب مع معطيات الشخصية. فكيف لشخص يتحدث طوال الوقت عن أن ما يهمه هو "الحقيقة" ألا يرغب في مجرد الاستماع لأبيه (الذي يظهر في مشهد واحد كشخص شديد اللطف) عن اتهاماته بالفساد كوزير سقط مع نظام مبارك؟ وكيف يبنى اهتمامه أصلاً بالقضية كلها؟ وكيف تتراص المشاهد دون أي منطق أو زمن محكوم (بعض الأحداث تجري في أيام، وبعضها الآخر في أشهر) باتجاه "كشف نهاية"، يدركه البطل فجأة دون أي مقدمات محكمة؟ وكيف تبدأ الأم في سرد ما حدث (وتحكي ما نراه أمامنا على الشاشة) بشكل أقرب للمسلسلات التلفزيونية في التسعينيات؟ دون مبالغة، لا توجد أي نقطة مضيئة أو ملفتة في سيناريو هيثم دبور، ولم يهتم بحبكة أو تطوير حوار، بقدر ما راهن، ربما، على الطرح السياسي المثير لجدل ما.
على الجانب الآخر، لم ينقذ كريم الشناوي السيناريو في أي موضع، فعوضاً عن أن كل مشاهد الفيلم حوارية (بين شخصين فقط على الأغلب) هي دون أي "دراما" أو أحداث تتحرك ونتفاعل معها كمشاهدين، فكذلك رؤية الشناوي البصرية لم تضف أكثر من تنفيذ الحوار بـ"قطعات" متبادلة بين الممثلين، واقتصرت إضافاته على تصوير بعض الحوارات كمشاهد خارجي في شوارع وسط البلد، دون أن يستفيد أبداً من وجود مدير تصوير بقيمة عبد السلام موسى، ولا من ديكور جيد (هو الميزة الوحيدة في الفيلم تقريباً) لعلي حسام. والأهم أنه لم يستطع قيادة بعض من أفضل ممثلي مصر خلال تلك المرحلة لأداء ينقذ الفيلم أو الحوار من فخ الركاكة والافتعال والمقالية؛ بداية من بطل الفيلم، أحمد الفيشاوي، الذي يقدم أداءً جامداً ومتخشباً وبنبرة صوت غير مفهومة، وروبي التي تظهر كثيراً دون أي حضور أو تأثير حقيقي للشخصية (ماذا سيحدث إن حذفت واكتفينا بأن التسريبات حدثت للجرائد؟!)، وعارفة عبد الرسول التي ظهرت بأداء تقليدي صار معتاداً منها، وأحمد مالك في مشهد واحد باهت جداً. الوحيد ربما الذي اجتهد لتقديم دور حقيقي هو محمد ممدوح، ولكن انفعالاته تشابهت في بعض اللحظات مع شخصيته في فيلم "تراب الماس" (الذي عرض قبل أسابيع قليلة)، وارتبك أيضاً بين تقديمه كـ"شخص شرير" وعدو للمشاهد لمدة ساعة ونصف، ثم الرغبة في تنزيهه بمشهد الـ"تويست" الختامي المرتبك. لتكون المحصلة فيلماً متواضعاً جداً على كل المستويات، أكثر تواضعاً من حَصر الخلاف حول موقفه من الثورة.
المساهمون