"عواصف" ساركوزي الباردة: من الطبيعي ألا يصدّقه أحدٌ

04 اغسطس 2020
ساركوزي، المذكرات كمحاولة للّعب السياسي مجدداً (Getty)
+ الخط -

كتابٌ جديدٌ للرئيس الفرنسيّ الأسبق نيكولا ساركوزي، ظَهر أواخر الشهر الماضي. يعودُ عَبره إلى المشهد الإعلامي، ضمن استراتجيته التواصليّة التي باتت ممجوجةً، وهو ما حدا ببعض الملاحظين إلى الإشارة إلى أنَّ الرّجل لم يَتَخلَّ عن مطامحه بالعودة إلى الحُكم مِن باب الكتابة السياسيّة الباردة. فهو لم يفتأ يغذّي، عبر مؤلفاته الأخيرة مثل "عواطف" (2018)، و"الكل من أجل فرنسا" (2016)، التخمينات حول مَساعيه للتأثير في سياسة البلد، إصداراتٍ دائمًا ما تقتَرن بوجود مَتاعبَ قضائيّة جادّة.

يحمل هذا الكتاب عنوانَ: "زَمن العواصف"، (528 صفحة، عن دار الأوبسرفاتوار). وفيه يَسرد الرّئيس الأسبق ما جرى له طيلة السّنتَيْن الأوليَيْن (2007-2008) من ولايته، فيما يبدو أنّه الجزء الأول من سلسلة كاملة حول الأعوام الخمسة التي قضّاها في قصر الإيليزي. هذا وقد حُرّر الكتابُ في كَنَف السّرّيّة المُطلقة حيث استغلَّ ساركوزي فترة الحجر الصحّي والانغلاق الشامل بفرنسا، ليشتغل بمعدل ثماني ساعاتٍ كل يومٍ لإتمامه، حَسب ما صرَّح به يومَ صُدوره، ولم يكن يعلم به أحدٌ، عدا زوجتِهِ ومستشارَيْن لَه.

ومنذ مساء السادس من مايو/أيار 2007، تاريخ وصوله  إلى سدّة الحكم، أثار سلوك ساركوزي الكثير من الجدل: إذ اختارَ أن يَحتفي بفوزه في الانتخابات الرئاسيّة، في مطعم الفوكاتس الفاخر بجادة الشانزيليزيه. وبسبب ذلك، صار مَسخرة الفرنسيين، يُطلَقُ عليه ازدراءً: "الرئيس بلينغ  بلينغ"، وهي تسمية كِنائيّة تسخرُ من جُنوحه للبَذخ وتَجعل منه رئيسًا  للأثرياء فقط. ولم يتخلّص من هذه السمعة طوالَ ولايته التي ابتدَأت بقَضايا حارقة مثل الأزمة الماليّة العالميّة التي عصفت بالبلاد سنة 2008 والصّراع الدمويّ الذي اندلعَ بين روسيا وجورجيا، فضلاً عن احتجاز رَهائن فرنسيين في أفغانستان.

الأسلوبُ والمضمون يُظهران وصوليًّا يسعى للنفوذ والثروة

ولذلك، يبتدئ الكتاب بوصف مشاعره أوّل يوم من الحُكم: "أصبحْتُ بدءاً من السادس من مايو 2007، وحيدًا. كان لديَّ فريقٌ من المُستشارين والأصدقاء وزائري الليل. لكنّي كنتُ وحيدًا في اتّخاذ القرارات الصعبة النهائيّة. وكان هذا هو الشعور الأول الذي انتابني بعد أن رافقتُ الرئيسَ جاك شيراك [مُوَدّعًا] وولجتُ إلى المَكتب الرئاسي، الذي سيصبح تحتَ تصرّفي، للسنوات الخمس المقبلة". ثم يستنتج: "إنَّ ممارسةَ السّلطة كانت بالنسبة إليَّ تجربةَ وَحْدةٍ وعُنفٍ مدوٍّ، أكثرَ فظاعَةً مما كنتُ أتَصوّر".

ثم تتالت الاعترافات والتوصيفات لما شهدته ولايتُه من أحداثٍ وما خالَطها من شخصيّات سياسيّة مَلأت المشهد فَرَسَمَ عنها بورتريهات، وهي تشمل في ذات الآن مُعارضيه وهم الأكثريّة، ومُواليه، إذ كان يُخصّص فقراتٍ عن كلّ واحدٍ منهم، ولا يوفّرهم ويَتَكلَّم عن "تفاهاتهم"، أحيانًا من دون دبلوماسية.

كما خصّص العديدَ من الصفحات لرسم علاقته بالشخصيات العالميّة مثل: أنجيلا ميركل وباراك أوباما وبوتين وغيرهم من سياسيّي عصرنا، وظل يراوح في التحليل والتصوير والملاحظة الذاتيّة ووصف مشاهد من حياته اليومية، دون أن ينسى إرسال إشاراتٍ لاذعة ضدّ وسائل الإعلام التي لم تَدّخر جهدًا، هي الأخرى، في انْتِقاده.

فَقْرٌ في الفِكر والإنسانية يُغطّيه صَخَبُ الكلام 

كما استعادَ ساركوزي "الأعاصير" التي ضَربت حياتَه الخاصة، وجلّها منثورٌ في الإعلام، ولا سيما مشاكله الزوجيّة التي انتهت بطلاقه من أم أولاده سيسيليا أتياس، ثم اقترانه بالمغنّية وعارضة الأزياء الإيطالية كارلا بروني. وليس في هذا الحديث من الأصالة شيءٌ وإنما هي وضعيات اعتياديّة، يُواجهها أيّ إنسان، وتنتمي إلى ما يسمى بأدبيّات المشاهير peoples التي تُقرأ لتُنْسى. الفرق الوحيد أنَّ مَن عاشها رئيسٌ.

وهكذا، والشهادة بِلسانِه، فَإنَّ العاصفةَ الكبرى التي تسبّب فيها ساركوزي هي تحطيم هيبة الوظيفة العليا في الجمهورية الفرنسية، وظيفة الرئاسة، التي تعاقَبَت على النّهوض بها شخصيات أكثر وزنًا وثقافةً مثل فرانسوا ميتران وجورج بومبيدو، فإذا به يهزّها ولاسيما من خلال مشاحناته اللفظيّة مع المواطنين والتي كان يُطلق خلالها عباراتٍ نابية لا تليق بالمقام السياسي الذي يمثّله، بل تَعكس جانبًا من شخصيته الانفعاليّة. ومع ذلك، لم يجد من حَرجٍ في العودة إليها وتبريرها بالقول: "أردتُ أن أظهِرَ أني لم أجْبَل من الشَّمْع، وأنَّي لا أمثّل أيَّ دورٍ".

ولا يسوق، في هذا العمل، إلا اعتذارات نادرة عن أخطائه التي ارتَكبَها، كتصريحه في دكار (السنغال) سنة 2007 أنَّ "الرّجل الإفريقي لم يدخل التاريخَ بعدُ"، مؤكّدا: "هذا خَطأ فادحٌ، لا يمكن لأحدٍ أن يبرّره". لكنْ دون أن يرقى كلامُه إلى اعتذاراتٍ رسميّة عن هفواتِه القاتلة في ليبيا والعراق وبعض الدول الإفريقية، كما لم يَتجرأ، طيلةَ ولايته، على فَتْح جروح الاستعمار الثخينَة.

ولكن ماذا يعني صدور الكتاب في مثل هذا التوقيت؟ هل هي رَغبته التي لا يكاد يخفيها، في العودة إلى المشهد السياسي، علمًا وأنّ هذه الإطلالات هو ما استمرّ في فِعله منذ خسارته في "أوليات" حزب اليمين، ومنها ما فَتئ يتحرك في الكواليس، ضمن عائلته الحزبية "الجمهوريين". ولعلّه، وقد أدرك هذا الانتقاد، بادرَ إلى إنكاره: "لستُ في حملة انتخابيّةٍ. لا أحدَ يُصدّقني لكن هذه هي الحقيقة، إنما أنا في مشروع بناء أو استمرار مسيرة سياسيّة". ومن الطبيعي ألا يصدّقه أحدٌ بعد أن ملأت ألاعيبه المشهَد السياسي، في العَلن والكواليس. 

"زمن العواصف" هو العنوان الذي اختاره ساركوزي ليشير به إلى المعضلات السياسية الكبرى التي واجهته في الفترة الأولى لولايته، مقارنًا إياها برياحٍ عاتية كادت تُغرق سفينةَ فرنسا. ولكنَّه نسيَ، أو تناسى، ما أحدثه هو من العواصف والأعاصير في بعض بُلدان العالم العربي، وما أسفرت عنه سياسته اليمينيّة المصطنعة وكراهيته للعرب والمسلمين داخل فرنسا وخارجها من آثار سلبيّة. ولذلك، يكاد يجمع المراقبون أنّ هذا التأليفَ، كسابقيه، ليس له من هدفٍ سوى إيقاف الإشكالات القضائيّة التي يقع في دوّامتها وكثرة القضايا الجنائيّة التي يُلاحقُ بسببها في محاكم فرنسا. 

ساركوزي

ومن جهة ثانية، لا نستبعد أنّ الرئيس الأسبق، يسبح على النّجاح التجاريّ الذي حققه كتابُه السابق "عَواطف" في المكتبات إذ صار الأكثر مبيعًا بفضل بيع 300 ألف نسخة منه، فكأنه يَسعى إلى جَني المال السهل، ببَيْع الكلام، بعد أن صارت كتابةُ المذكّرات السياسيّة تقليدًا أدبيًّا لا يُقاوَم. يأتيه جلُّ الرؤساء الغربيين. وقد تُحدث إحدى هذه المُذكرات ضجيجًا، سريعًا ما يهدأ، بعيد مُرور برهةٍ قصيرةٍ.

لا نَظنُّ أنَّ الكتابَ سَيَصمد لمدة طويلة، إلا لدى مَن سيَختصّ في تأريخ تلك الحقبة. عدا ذلك، الأسلُوبُ والمضمون دونَ المتوسط قيمتُهما، يعكسان رَجلاً وصوليًّا، يسعى لإرواء ظمَأه للنفوذ والثروة. ولعلّ الفضائح الماليّة والسياسيّة التي تلاحقه، والتي تتعلق بالحصول على تمويلاتٍ خارجية ضخمة (أرسلها القذافي) دليلٌ على مدى الهوّة التي تفصل بين الخطاب الجمهوري الجميل الذي ينادي به والسلوك الحقيقيّ الذي لا يتورَّع عنه. ومن "عواصف الزّمن" التي ضَرَبت العالم، لم يستنتج خلاصاتٍ فكريّة أو فلسفيّة ولم يعبّر عنها بأسلوب أدبيّ أو تاريخيّ رصين. قالتْ دراسة ألسنيّة أجريت على خطاباته، إنَّ المروحة المعجميّة التي يَستعملها لا تتجاوز 300 كلمة. فَقْرٌ في الفِكر يُغطّيه صَخَبُ الشّعارات. 

المساهمون