لم يُحقّق عرضٌ عربي في "مهرجان أفينيون المسرحي" احتفاءً جماهيرياً ونقدياً، خلال دوراته الخمس الأخيرة على الأقل، كالذي حقّقه عرض "عساه يحيا ويشمّ العبق" للمخرج والكوريغراف اللبناني علي شحرور (1989)، والذي قُدّم ضمن فعاليات الدورة الثانية والسبعين التي نُظّمت أخيراً.
بهذا العمل، يكون شحرور وصل إلى نهاية "ثلاثية السواد" التي بدأها مع عرض "فاطمة"(2014)، ثمّ "موت ليلى"(2015)، واللذين عُرضا في المهرجان نفسه سنة 2016.
يستند العرض إلى اشتغالٍ بحثي معمّق على علاقة الجسد، تاريخياً، بطقوس الموت والرثاء في الميثولوجيات القديمة لحضارات السومريّين وبابل، إضافة إلى تأثّراته الجلية بشعائر الموت عند مسيحيّي المنطقة وعند المسلمين؛ الشيعة على وجه الخصوص.
الخشبة شبه فارغة، السواد يغلّف كل شيء، تبدأ الممثّلة السورية حلا عمران بتجويد آياتٍ من سورة "القيامة"، ثم يتداخل صوتُها مع ضجيج وصخب ثم هدير طائرة عمودية وطَرق حديد متصاعدَين حدّ الإزعاج. بعدها، يظهر ثلاثة شبّان (علي شحرور والموسيقيّان علي حوت وعبد قبيسي) تاركِين مقاعدهم في الصف الأوّل من الصالة إلى عمق المسرح؛ حيث مذبح الآلهة.
وهناك، سيبدأ مشهد نحر الشاب بالآلة الموسيقية في دلالةٍ على حضور الموسيقى الأصيل في المنطقة، وارتباط تطوّرها بالطقس الديني. تدريجياً، تتعالى إيقاعات الدفوف مشكّلةً دقّات قلبٍ واحدٍ يبدو كما لو أنه خرج للتو من فاجعة ما، كما أنها تنتمي إلى سيرة طويلة من النواح يسكن روح المنطقة.
يستفيد شحرور من حضور الموسيقيين على الخشبة؛ إذ يُشكّلان معه صورة الذكر المرثي. وهنا تجدر الإشارة إلى براعة الاشتغال الموسيقي؛ حيث تجاوز دوره الوظيفي ليحضر كعنصرٍ درامي أصيل يقول ما لا يُقال على الخشبة تارةً، ويشارك في تلاوة المونولوغات تارةً أخرى.
مقابل الحضور القوي للذكَر المرثي، تنتقل الممثّلة حلا عمران لتؤدّي أدوار عشرات النساء، حاملةً أصواتهن. إنها محاولةٌ للتخفيف من عنف الموت الذي تحضُر مفرداته بغزارة في العرض. تُبرز عمران مقدرة صوتية هائلة وهي تنتقل بين التجويد والغناء واللطم والحدي، لتصل في أماكن كثيرةٍ إلى مواضع صعبة الوصول، متقمّصةً صوت الفاجعة بعويلها وشدوها اللذين يكشفان عن كلّ ما تحويه المأساة من جماليات خفية.
في لحظات كثيرة أثناء الأداء الصوتي، يظهر جسدها وكأنه خاضع لقوّتَين متعاكستَين: واحدة تشدّها نحو الأعلى (الخلود)، وأخرى تشدّها نحو الأسفل. جزء من مأساتها أنها معلّقة في هذا البرزخ، فلا تستطيع أن تلحق بمن ترثيه، ولا تستطيع أن تُعيده إليها. يحضر الصوت بوصفه مهرباً من هذا الوضع.
يُقدّم علي شحرور المناجاة وكأنها رغبة بشرية لإعادة الميت. الرثاء هو، قبل أيّ شيء آخر، رثاءٌ للذات العاجزة عن تغيير قوانين الطبيعة. لا تلمح الشخصيات، كيفما التفتت، سوى نهايتها، فلا تُريد إلا أن تسبغ عليها بعضاً من الجمال، فتحاول أن تشدو على أبواب الجحيم.
هكذا، يُعيد المخرج اللبناني جسد بطله، بكل ما يحمله من أثقال وأهوال، إلى سياقه التاريخي والسياسي، خصوصاً أنه لا يزال يتحرّك في حيّز جغرافي مسكون بالفجائع.