تحت سطوع تدريجي يضيء فضاء "حديقة هيسبيريس" المؤثثة بأشجار التفاح الذهبي، يقفز ثيسبيس إلى حلقة صغيرة ويتوسّطها ليخاطبنا نحن المتفرجين شاهراً قناعه: "أنا من نفحة القرن السادس قبل الميلاد جئتكم. أنتم حفدة هسبيريس يا معشر الطنجيتانوس وأنا ثيسبيس سليل ديونيزوس. جئتكم رسولاً من أناشيده لتمجيد أساطير إغريقيا، لا تعرفونني. المؤلّف لا يعرفني أيضاً. بُعثت إليكم من رماد التاريخ، سخّرني مؤلفكم ليحكي ما أوتي من أساطير إغريقيا في مغارب هسيبريس، وقد سخّركم بين يديّ ليجد مخرجاً لورطته مع هرقل، مع أنطيوس، مع طنجيس وهيرالدا".
يستحضر الكاتب المسرحي المغربي الزبير بن بوشتى، مؤلّف مسرحية "طنجيتانوس"، التي عُرضت مؤخراً في طنجة، شخصية ثيسبيس ويجعل منها راوياً. ثمّة خمس شخصيات تتنقّل بانسيابية على الخشبة بين فضاء المغارة و"حديقة هيسبيريس" التي تخضع لنفوذ أنطيوس، حيث الفاكهة الذهبية المحروسة بالتنين "لادون" ذي المئة رأس.
تحكي المسرحية أسطورة استيلاء هرقل بالحيلة على الفاكهة الذهبية، وهي من تحدّيات البطل الأسطوري الإثني عشر، وقد حققّها فعلاً بعد أن قضى -في معركة جسدية- على خصمه أنطيوس. وإضافة إلى الفاكهة، استولى على مملكته وزوجته "طنجيس" أيضاً وأنجب منها ابنه سفوكس، الذي أسّس مدينة أطلق عليها "طنجيس" تكريماً لوالدته.
يأتي بن بوشتى ويغيّر في الأسطورة، فيمنع هرقل من تحقيق آخر تحدياته، وهو القضاء بيديه (لا بالسلاح) على الكلب سريبر ذي الرؤوس الثلاثة، ويجعل أنطيوس المهزوم يعيش في مغارة بعيدة، الوحيد القادر على صناعة سلاح يقضي على الكلب.
هنا تظهر زوجته طنجيس برفقة ديجانير (زوجة هرقل) في "حديقة هيسبيريس" وهما تعيشان في ودٍّ يتحوّل في ما بعد إلى كراهية، حين تعلم ديجانير أن طنجيس حبلى بجنين هرقل.
يُبقي الكاتب على صراع أنطيوس الوجداني، وحبه العميق لطنجيس بعد أن فرّقهما هرقل، مُحرّكاً للأحداث، إذ تتخفّى طنجيس في لبدة أسد لزيارة أنطيوس خلسة. ويلتقي الزوجان بعد غياب طويل في حوار تراجيدي يرفض فيه أنطيوس الهزيمة، عازماً على الانتقام، وخلاصه الوحيد يكمن في السلاح الذي اخترعه لعدوّه هرقل، أي الرمح المسمّم، والذي يحوّل دم من يصاب به إلى مادة حارقة.
لكن أنطيوس يموت برمحه أثناء مبارزة مع هرقل، ويطلب وهو يحتضر من ديجانير أن تخضّب أعز لباس لدى هرقل بدمه، وأن تحثّه على ارتدائه حتى يعود إليها كقط وديع.
يحاول بن بوشتى من خلال هذا النص استرجاع أسطورة الصراع بين هرقل وأنطيوس، عن ذلك يقول لـ "العربي الجديد": "صراع هاتين الشخصيّتين هو صراع قوى عظمى وصراع عاطفي وسياسي وإيديولوجي، فكلّما اشتدّت الصراعات والأزمات اشتدّت الحاجة إلى الرجوع للأساطير".
هضم صاحب "رجل الخبز الحافي" المعلومات التاريخية التي وصل إليها بعد بحث مطوّل في تاريخ المدينة الميثولوجي، قبل أن يصوغ "طنجيتانوس" في نص فني مسرحي بلغة أدبية عربية عالية، استطاع أن يوظّفها بوضوح عبر الإضاءات أو المتواليات الحكائية التي حملت كل منها عنواناً خاصاً بها.
يعلّق بن بوشتى: "الرهان أن تكتب المسرح بلغة أدبية قابلة للتمسرح. كثيرون من يكتبون بلغة أدبية قد تكون خشبية، في حين تكون الكتابة للمسرح لها ضوابط وشروط وتقنيات مختلفة. لذلك من الصعب الجمع بين الكتابة الأدبية الراقية والقابلية للتمسرح، إذ ينبغي أن نزرع في النص الحياة".
النص المغرق في الميثولوجيا احتاج إلى رؤية إخراجية مغايرة، يقول السينوغراف ومخرج المسرحية عبد المجيد الهواس لـ "العربي الجديد":
"إن التقنيات التي وظفناها في الإخراج تستلهم الشكل الفني، وترسم معالم عمل مسرحي معاصر يخلط الحدود ما بين المادة الأسطورية وتذويبها في معطيات الحاضر من خلال اللباس والموسيقى والإكسسوار. وهذا المزج بين العناصر لا يورّطنا في الأشكال التقليدية المفترضة في تناول الأسطورة".
وعمّا إذا كانت مدة العرض (ساعة ونصف) كافية لاستيعاب النص، يقول الهواس: "العمل لا يستعرض الحقائق التاريخية ولكنه يستلهم بعضاً منها ليفتح ذهن المتلقي على التأمل، ومن ثم إعادة صياغة القضايا الراهنة".
ويضيف المخرج المغربي: "هناك نوع من التكثيف والاختزال لاستخلاص المعاني المتخفية والإيماء إليها، ليكون العمل منفتحاً على التأويل والاستفزاز، فكل مناسبة تعرض بها المسرحية يصغي المتلقي جيداً لما يحدث أمامه، وهو بذلك يندمج في لعبة الإيهام، لأننا نقدّم له شكلاً فنياً يتجاوز المألوف".
تنطلق "طنجيتانوس" بعد عرضها الأول على "مسرح القصبة" في طنجة ضمن فعاليات مهرجان "ثويزا للثقافة الأمازيغية" في جولة فنية تمر بمسرح "للّا عائشة" بالمضيق في تطوان، يليها عرض على خشبة "دار الثقافة" في الفنيدق، ناحية تطوان أيضاً، ثم ينتقل العرض إلى العرائش للمشاركة في فعاليات "مهرجان ليكسا للمسرح".