"شهيدات الطحين" و"شهيدا الفحم" و"شهيدات السلع المهرّبة" و"شهيد السمك" و"شهيدة الرغيف"... تكثر الألقاب في المغرب للإشارة إلى مواطنين لقوا حتفهم وهم يبحثون عن لقمة العيش أو يدافعون عن الحقّ في امتلاكها. ويبدو ذلك كظاهرة مجتمعية تتمدّد خلال الفترة الأخيرة.
مي فتيحة بائعة الفطائر هي من "شهداء الخبز"، كذلك هو محسن فكري بائع السمك، إلى جانب مغربيات قضينَ عند معبر سبتة أو في زحام خانق وهنّ ينتظرنَ تسلّم مؤونة غذائية، وأخريات وآخرين. والوقائع التي سُجّلت أخيراً، أعادت إلى أذهان المغاربة شهداء سابقين لقوا حتفهم في عام 1981، خصوصاً في الدار البيضاء حيث خرج آلاف المحتجين الغاضبين على رفع أسعار المواد الغذائية الأساسية ومنها الخبز، فتصادموا مع القوات الأمنية وسقط ضحايا كثيرون حينها أطلق عليهم "شهداء الكوميرا".
في إبريل/ نيسان من عام 2016، أضرمت مي فتيحة أو "شهيدة الرغيف" النار في جسدها احتجاجاً على مصادرة السلطات المحلية في القنيطرة (شمال غرب) الفطائر والمعجنات التي كانت تعيل من خلالها أسرتها الصغيرة. هي أرملة اضطرت إلى الخروج للعمل حتى تسدّ رمق أطفالها. بعد أشهر قليلة، في أكتوبر/ تشرين الأوّل من عام 2016 نفسه، تُسجَّل حادثة مأساوية هزّت البلاد وأهلها، وكانت سبباً غير مباشر في إعفاء وزراء ومسؤولين كبار في البلاد من مسؤولياتهم. حينها، لقي محسن فكري بائع السمك الشاب حتفه في مدينة الحسيمة (شمال) في داخل آلة لفرم القمامة، بعدما حاول استرداد الأسماك التي رمتها الشرطة في شاحنة نفايات، إذ إنّه يعيل بها عائلته الفقيرة.
وكانت لموت محسن فكري آثاره السلبية الكبيرة في مدينته وفي مناطق عدّة من البلاد، إذ راح ينتشر الوعي حول ضرورة محاربة ما يسمى "الحكرة" والغبن الاجتماعي. فسمّي فكري شهيد لقمة العيش، واستمرّت الاحتجاجات الشعبية ليصير ملف ناشطي الريف واحداً من الملفات الملتهبة في البلاد.
تحرّك اجتجاجي في جرادة مدينة "شهيدَي الفحم" (فاضل سنا/ فرانس برس) |
وتضمّ قائمة "شهداء الخبز" في المغرب كذلك أسماء "بغْلات" وهنّ هؤلاء النساء اللواتي يشتغلنَ كحمّالات للسلع المهرّبة من مدينة سبتة، فيحملنَ البضائع الثقيلة على ظهورهنّ وينتظرنَ طويلاً في طوابير مزدحمة، في حين يضايقهنّ رجال الأمن الإسبان عند المعابر الحدودية. وفي فترة زمنية قصيرة لا تتجاوز شهراً واحداً، قضت ثلاث نساء حمّالات على أعتاب المعبر الحدودي لسبتة. اثنتان منهما من جرّاء الازدحام الشديد، أمّا الثالثة فعند تدخّل الحرس المدني الإسباني. وتبقى القائمة مفتوحة أمام "شهيدات" جديدات، إذ إنّ توافد هؤلاء مستمرّ، فهنّ نساء فقيرات لا يقتتنَ إلا من هذه المهنة القاسية.
ومصرع النساء الحمّالات أثار ضجّة كبيرة في البلاد، وصلت إلى البرلمان وتداولها قياديون حزبيون، منهم زعيم حزب "الأصالة والمعاصرة" إلياس العماري الذي قال إنّ وفاة امرأة خمسينية عند معبر سبتة (في 24 إبريل/ نيسان 2017) بسبب التدافع "يذكرني بما يحدث أمام الجدار العازل الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني". وقد شدّد العماري حينها على أنّ تلك الواقعة المأساوية تدعو إلى مساءلة الجميع، حكومة ومنتخبين، في ظلّ غياب أيّ أرقام رسمية حول عدد المستفيدين من تجارة السلع المهرّبة. أضاف أنّ ثمّة من يتحدث عن الآلاف ممن "تُهان كرامتهم يومياً"، نساء ورجالاً وأطفالا وشيوخاً.
في السياق، قضت 15 امرأة في ازدحام شديد في مدينة الصويرة (غرب) في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، عندما كنّ ينتظرنَ أدوارهنّ للحصول على مؤونة غذائية ليست أكثر من دقيق وزيت وسكّر. اهتز المجتمع المغربي وراحت الدعوات تُطلَق من أجل حفظ كرامة الفقراء، وأضيفت "شهيدات الدقيق" إلى قائمة ضحايا لقمة العيش. وهذه الواقعة أعادت إلى الواجهة ملف "الإحسان العمومي".
واخُتتم عام 2017 بإضافات جديدة إلى لائحة "شهداء الخبز"، مع وفاة شابَين شقيقَين داخل بئر عشوائي للفحم الحجري. هما نزلا إلى ذلك المنجم غير القانوني لاستخراج الفحم وبيعه بهدف إعالة أسرتَيهما الفقيرتَين في مدينة جرادة (شرق)، لكنّهما لقيا حتفهما. وهذه الحادثة أدّت إلى احتجاجات واسعة النطاق، ما زالت تداعياتها تُسجّل في البلاد.
تعليقاً على تنامي ظاهرة "شهداء الخبز" في المغرب في الآونة الأخيرة، يقول الباحث المغربي الدكتور محمد الزهراوي لـ"العربي الجديد" إنّه "يؤشّر إلى هشاشة الوضع الاجتماعي في بعض مناطق المغرب وتردّيه. وهو أمر يثير القلق ويحتاج إلى تدخّل عاجل من قبل الحكومة المغربية". ويؤكد الزهراوي أنّه "في الإمكان فهم أسباب هذا الوضع المتردي اجتماعياً وعوامله من خلال نقطتَين، الأولى ضعف النموذج التنموي المعتمد من طرف الحكومات المتعاقبة وفشله، إذ إنّ هاجس الحكومات هو المحافظة على توازنات الاقتصاد الكلي وتنفيذ توصيات المؤسسات المالية الدولية الكبرى، وذلك على حساب الطبقات الاجتماعية الهشة والمتوسطة. أمّا النقطة الثانية، فتتمثل في عجز الحكومة الحالية على بلورة سياسات عمومية تكون قادرة على تقديم حلول للمشكلات الاجتماعية الراهنة. والائتلاف الحكومي الحالي هو ائتلاف هجين إذ إنّه يتألّف من 39 وزيراً بلا لون أو طعم سياسي، وليس لديه أيّ تصوّر أو رؤية واضحة لحلّ المعضلات الاجتماعية الساخنة".