مدينة من ضوء النيون المزعج، أبنية جرداء، بقايا عمارات، طوب وإسمنت وحديد مسلّح في كل مكان، ضجيج، بنّاؤون، ألواح بلاستيكية أو معدنية فوق رؤوس العمّال. الإنارة قوية، والمشهد يبدو غابةً من الأشجار الإسمنتية الميتة في بقعة صفراء حارّة. كلٌ يخرج بانطباع مختلفٍ من معرض الفنّان البريطاني، ناثانيال راكو، "شكل المدينة"، الذي يتواصل في "غاليري ليتيتيا" في بيروت حتى الخامس والعشرين من آب/ أغسطس الجاري.
ينقسم المعرض إلى أربعة أقسام، الأوّل أعمال زيت على ورق، والثاني تجهيزٌ ضخم من ألواح البلاستيك والضوء الذي يواجهك عند مدخل القاعة. إنه حاجز والمدينة تقع خلفه. أمّا الثالث، فيتكوّن من ستّ منحوتات صنعها الفنّان من مخلّفات البناء في مناطق مختلفة من بيروت، فيما يُشكّل الجزء الأخير من المعرض امتداداً له خارج الغاليري، حيث تقف منحوتتان في الفضاء العام وسط المدينة التي تُحاول الأعمال تقمّصَ روحها وشكلها.
يُفرد الفنّان الأعمال الزيتية لتصوير محطّات الوقود؛ الألوان موزّعة بين الأبيض والأسود والأصفر الفاقع، تخطيطات مختلفة تبدو كما لو كانت "ماكيت" هندسيّاً للمحطّة من عدّة زوايا وبأحجام مختلفة.
أشغال البناء ثيمة أساسية في كلّ الأعمال، توحي بأن ثمّة خلفية معمارية أو تخطيطاً عمرانيّاً تقوم عليه مخيّلة الفنّان. إنه مولع بشكل البناء البارد، الحديث، إسكاني الطابع، العمّالي، المجرّد من أيّة مسحة حميمية أو شعور بالألفة. نحن أمام كتل من الإسمنت والضوء القوي المرتبط بالعمل والظهيرة والساعات الطويلة، والبعيد عن الراحة والهدوء والطمأنينة.
بهذه التفاصيل، يختصر الفنّان تاريخ مدينة لا تعرف الراحة ولا الطمأنينة، ولا تنتهي حالة الهدم والبناء فيها ولا تركن إلى ليل ولا تستكين إلى نهار، مدينة من القلق وعدم الاكتمال.
تُبيّن القيّمة والناقدة الفنية، بيكا بيلي فراي، في قراءة لأعمال الفنان أن "المعرض يُمثّل ذروة فترة من العمل استلهمها مباشرةً أثناء إقامته في بيروت عام 2009"، حيث اكتشف طبقات من تاريخ المدينة من خلال بنيتها المادية، من بيروت الثقافية والحرية الاجتماعية، وحتى بيروت الحرب الأهلية، وصولاً إلى بيروت الإعمار وما بعده وحتى اليوم.
لن يفوت العابر من وسط بيروت رؤية العمل المسمّى "إل بي 46"؛ إنه أربعة مربّعات معدنية متداخلة، عمل واضح حتى في الليل، فهو مصنوع من أنابيب الفلورسنت التي تلمع في الظلام، وبلون ذهبي ساطع.
أمّا العمل الآخر، الذي يشغل حيزاً آخر وسط المدينة، فهو "توسع سقيفة سوداء"، وهو أشبه بعليّة أو حجرة ملقاة وسط المكان، كما لو أنها بناء آخر من ضمن الأبنية الصمّاء، سواء تلك الفارهة التي تظلّ خالية طيلة العام، أو تلك الصغيرة الفقيرة، أو تلك المهجورة والمنسية. السقيفة في غير مكانها ليست إلّا سؤالاً عن أي بناء يُقام في غير موضعه.
تظهر بيروت في أعمال راكو مدينةً صناعية كبيرة، عمل "إل بي 46" غير الواقعي والغامض يبدو كمركبة فضاء حطّت في بقعة مليئة بطوب البناء الذي تركه العمّال خلفهم، لتبدو المساحة ليست مكاناً واقعياً بل مشهداً مأخوذاً من أحد أفلام الخيال العلمي.