"شكل الماء" ومكر التلقي

12 مارس 2018

مخرج "شكل الماء" و"أوسكار" لأفضل إخراج وفيلم (4/3/2018/فرانس برس)

+ الخط -
حفلت "ألف ليلة وليلة" بقصص الحب والغرام بمعناه الحسي بين الإنسان والحيوان. وهناك مشاهد إيروتيكية فيها، تجمع بين نساء حسناوات ووحوش ضارية يؤنسنها الحب في النهاية. وفي الأساطير الإغريقية قصص مشابهة، جمعت بين مخلوقاتٍ عجيبةٍ وبشر، فقد تنكّر زيوس، رب الأرباب، ذات غرام ملتهب، في هيئة ثور، لكي يحظى بمحبوبته الحسناء. وتطرّقت الأسطورة البابلية إلى قصة عشق ومتعة حسية عالية، جمعت بين عشتار، ربّة الخصب والغواية ورمز الجنس، وبين الكائن المتوحش أنيكيدو الذي فقد براءته على يد الأنثى. وقد حرّض هذا الموروث الإنساني الفكري العظيم، المتكئ أساسا على المخيلة، وقدرتها اللامتناهية، كبار المبدعين والفنانين والشعراء عبر التاريخ، لتوظيف مفرداته الثرية في أعمالهم التي نالت الخلود كذلك.
ولم يتردّد صناع السينما العالمية في ورود هذا المصدر الأساسي والثري من تاريخ الإنسانية الفكري والإبداعي، واستثماره في أعمالٍ لاقت قبولا جماهيريا، وحققت أرباحا عالية، لعل فيلم "الجميلة والوحش" كان أبرزها، حيث فتاة طيبة بارعة الجمال تقع في غرام مخلوق غامض شديد القبح، غير أن روحه تعبير عن الجمال الخالص البكر. واستندت القصة التي أعيد إنتاجها مراتٍ بأشكال مختلفة، مسرحيا وتلفزيونيا وسينمائيا، على البعد الرومانسي الشفاف المرهف العذب الذي يلمس أرواحنا، ويؤكد على قيم ومفاهيم نبيلة، أهمها الانتصار لفكرة الحب، وقبول المختلف، بل والتصالح معه، مهما بلغت درجة الاختلاف، فجاءت القصة ملائمة لمخاطبة الأطفال، وتثبيت ملامح هذه الروح من المحبة في تركيبتهم النفسية والمسلكية.
هذا مهم للغاية، لا أظن أنه ينطبق على فيلم "شكل الماء" الذي ترشّح لثلاث عشرة جائزة في "الأوسكار" أخيرا، وحصد جائزتي أفضل فيلم وأفضل إخراج. ومع ضرورة الإشارة إلى بعض الجماليات في الفيلم، أبرزها الموسيقى التي لعبت دور البطولة، وأيضا اللمسات الإخراجية التي لم تعتمد الإبهار البصري، بل ظهرت هادئة وبسيطة، حرصت على تجسيد ملامح فترة الستينيات، من دون الاضطرار إلى إقامة مواقع تصوير ضخمة، تحاكي تلك الفترة، لأن معظم المشاهد لم تخرج عن نطاق البيت والمنشأة السرية. وبأسلوب أقرب إلى الإخراج المسرحي التقليدي، قدمت القصة البسيطة عن عشق بين امرأة بكماء، متواضعة الجمال، قليلة الثقة بالنفس، عاملة تنظيف في منشأة حكومية سرية، ومخلوق برمائي عجيب، يخضعونه للبحث والدراسة، وتنشأ بينهما بسرعة، ومن دون مقدمات مقنعة فنيا، علاقة حب غريبة، تصل إلى الاتصال الجنسي.
تدور الأحداث في غضون الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وهو سياق لم يكن مقنعا، على الرغم من ضرورته الفنية في الحكاية التي لم تخلُ من ركاكة. كما جاءت سطحية شخصية مدير المنشأة، رجل السلطة الجلف، يمثل الشر المطلق غير المبرّر، يتعامل مع زوجته بقسوة، ويقوم بتعذيب المخلوق بالصدمات الكهربائية، ويتحرّش بالخادمة البكماء، وينكّل بالجاسوس الروسي. كما أن الزميلة والصديقة العاملة السوداء وزوجها الأسود الخامل الكسول، دوران نمطيان مساندان طالما اعتمدتهما "هوليوود"، على الرغم من احتجاج النجوم السود. كما أن الصديق الفنان البوهيمي العبثي المعادي للسلطة، والبطلة البكماء، عنصرا جذب لم يضيفا الكثير لدوريهما.
واستكمالا لدورٍ مشبوه لـ "هوليوود" في دعم الصهيونية أن يزجّ مشهدان غير ضروريين، وبدون أي مناسبة، صورة الفلسطيني المتوحش الخائن، من خلال الحديث عن البطل العبراني شمشون الذي اقتصّ من الفلسطينيين الذين عذّبوه واقتلعوا عينيه، فقتل آلافا منهم قبل هدم المعبد. وبدهاء كبير، تم تمرير مفردة المفجّر الإسرائيلي، وهو، بحسب النص، جهاز معقد، استخدمه الروس في أبحاثهم العلمية، على الرغم من أنهم يكرهون الإسرائيليين، لكنهم (الروس) لا يستغنون عن قدراتهم العلمية الجبارة! هذا ما قاله مدير المنشأة الشرير متهكما... ليس من الحكمة الدعوة إلى مقاطعة الفيلم، لكن المتمنّى على المشاهد العربي، والناقد المتخصص، التمهل قليلا قبل المبالغة في الاحتفال بهذا الفيلم، على الرغم من بريق "أوسكار" الخادع الذي يستدعي قليلا من مكر التلقي، في المقابل وبالضرورة.
AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.