ويتعاظم دور "الشرعيين" بشكل خاص، عند وقوع خلافات واحتراب بين تلك الفصائل، فغالباً ما يتجندون لإصدار الفتاوى التي تغذي هذه الخلافات وتؤججها. كما يبرز دور الأجانب منهم، في الآونة الأخيرة كمحرضين على قتال الداعين للعودة إلى الحالة "الوطنية السورية" وتغليبها على فكرة "الجهاد" العالمي التي يعني تراجعها، انتفاء دور هؤلاء، وإبعادهم خارج الحدود.
في هذا السياق، وخلال المواجهات الأخيرة في الشمال السوري بين "هيئة تحرير الشام" (تحالف تقوده جبهة النصرة) و"حركة أحرار الشام الإسلامية" برز دور بعض الشرعيين في التحريض على القتال، بوصفه "شرّاً لا بد منه" لإعلاء "كلمة الجهاد"، وفقاً لتعبير بعض الشرعيين في "هيئة تحرير الشام"، وهو أبو اليقظان المصري الذي تسرب له تسجيل صوتي داعياً فيه المقاتلين في الهيئة إلى قتال "أحرار الشام" وضرب عناصرها "في الرأس"، متهماً قيادتها بالتنسيق مع تركيا، كي تدخل الأخيرة جنودها إلى إدلب في إطار تطبيق اتفاقية "خفض التصعيد". واعتبر المصري أن "ما قامت به هيئة تحرير الشام هو خطوة استباقية للحيلولة دون دخول القوات التركية ونهاية الجهاد في هذه المنطقة".
اللافت أن أبو يقظان كان من بين ثلاثة شرعيين في "هيئة تحرير الشام"، جميعهم مصريون، أيدوا بشدة قتال "حركة أحرار الشام"، وإضافة إليهم، أبو الفتح الفرغلي، وأبو شعيب المصري، بينما فضّل الشرعي العام للهيئة أبو محمد الصادق، وهو مصري أيضاً، تغليب الحوار على الحسم العسكري، إلى جانب "الشرعي" السعودي المعروف عبدلله المحيسني.
وكان جميع هؤلاء شرعيين أصلاً في "حركة أحرار الشام"، قبل مغادرتها باتجاه الهيئة في فترات مختلفة، إذ غادر العام الماضي كل من أبو اليقظان وأبو شعيب، بعد إصدار المجلس الشرعي في الحركة فتوى تُجيز التنسيق مع الجيش التركي، من أجل قتال تنظيم "داعش" شمالي حلب. وذكر أبو اليقظان في تغريدة له على موقع "تويتر" في حينه، أنه "لن نُقاتِل بالوكالة أبداً، فالجهاد الإسلامي ليس ذَنَباً للعلمانية، لنا روح واحدة لن نبذلها إلا لله، لا طاعة لبشر في معصية الله (عملية درع الفرات)". أما أبو شعيب فغرّد قائلاً: "أنصح الصادقين في شمال حلب أن يجتمعوا في فصيل جديد لا إفراط فيه ولا تفريط، وليحذروا ظلمات التنسيق ضد الخوارج مع تركيا والائتلاف وأميركا".
مع ذلك، كانت "حركة أحرار الشام" أصدرت قبل أشهر عدة من ذلك، قراراً بفصل أبو شعيب المصري من مكتب الإرشاد والدعوة التابع لها، معلنة أن "آراءه الشرعية لا تمثل الحركة، وأنه فرد عادي في صفوفها". وقد أُقيمت دعاوى قضائية ضد أبو اليقظان المصري بسبب تصريحاته وفتاويه التي تفسد العلاقات بين "أحرار الشام" وباقي الفصائل، داعياً بشكل علني إلى الانشقاق عن فصائل غرفة عمليات فتح حلب والتحاقها بجيش الفتح، مُطلقاً تُهمَ الخيانة على فتح حلب في حينه. كما رفض أبو شعيب آنذاك مقالات رئيس المكتب السياسي في الحركة لبيب نحاس، التي دعا فيها إلى تحول الحركة باتجاه الحالة الوطنية والتأقلم مع المعطيات الدولية، ووصفها بـ"العمل المنكر".
وكان أبو شعيب شرعياً في تنظيم "داعش" قبل هربه باتجاه "جبهة النصرة" قبل عامين، وذلك بسبب فتاويه التي اعتبرها حتى قياديون في "داعش" أنها "غريبة". وقال أحدهم، وهو أبو ميسرة الشامي، إن "أبو شعيب ليس له أي علاقة بدراسة الفقه، ولا يعرف مسائل الخلاف ولا يعترف بها، ومتعصّب لرأيه. لذلك أمر المسؤول الشرعي العام لولاية حلب بعزله، بعد أن جالسه في المعهد الشرعي بحلب. وذكر الشامي أن "أمثلة على جهل الرجل (وهو رسام كاريكاتير سابق) أنه أثار مسألة سبي نساء وذراري الفرق الباطنية، ويرى سبيهنّ في المعارك الحاصلة مع النصيرية اليوم، فيتكلم في المسألة كأنها من أصول وواجبات الدين، ويغلظ القول على من خالفه. ما يدل على جهله الشديد بواقع الجهاد وعدم اعتباره للمفاسد المترتبة على هذه المسألة، فالإخوة لا يرون سبي نساء النصيرية في ظروفنا الحالية، كي لا تكون سبباً لانتهاك أعراض المسلمات ممّن يعيش في مناطق النظام".
ورأى متابعون أن "الشرعيين المصريين، وهم قريبون من جماعة الجهاد المصرية، كانت مهمتهم حين كانوا في حركة أحرار الشام دفعها باتجاه فكر القاعدة، وحين غادروها باتجاه هيئة تحرير الشام، تولوا في الغالب التحريض على قتال الحركة وإنهاء وجودها. واعتبروا أن نجاحها في التحول إلى حالة وطنية، والتعاطي السياسي مع الدول المؤثرة في الساحة السورية، يعني محاصرة الفكر الجهادي وسحب البساط من تحت أقدام أصحابه، بداية من إدلب، وانتهاء بمجمل الشمال السوري. ما يعني في المحصلة انتهاء هذه الحالة في الساحة السورية برمتها، باعتبار أن الوجود الأقوى لهيئة تحرير الشام، هو في الشمال، بينما تحتفظ في محيط دمشق والجنوب، بجيوب معزولة، وسط قوى معادية".
وكان العديد من الشرعيين في "جبهة النصرة"، وبعدها "فتح الشام" وصولاً إلى "تحرير الشام" تعرّضوا للاغتيال بواسطة طائرات التحالف الدولي أبرزهم شرعي الجبهة الأول أبو أفغان المصري، المعروف أيضاً باسم "أبو عبد الله المهاجر"، الذي قُتل جرّاء قصف استهدفه مع عائلته قرب سرمدا بريف إدلب. وكان من أهم شرعيي القاعدة في أفغانستان، وأبو الفرج المصري (أحمد سلامة مبروك)، وهو عضو مجلس شورى جبهة "فتح الشام"، الذي كان أيضاً من كبار قادة تنظيم "القاعدة" من رفاق زعيم التنظيم أيمن الظواهري، ومن الشخصيات القديمة في جماعة الجهاد المصرية، إضافة إلى أبو هاني المصري.
وعدد المقاتلين المصريين ضئيل بين المقاتلين غير السوريين، إلا أن العنصر المصري المنخرط في صفوف القوى الإسلامية المعارضة هم من فئة النخبة غالباً، ومعظمهم إما من الدعاة أو القادة. والمصريون منضوون في تيارين أساسيين: الأول هو الحركة الجهادية التقليدية، وعناصره انضموا بعد وصولهم إلى سورية إلى "جبهة فتح الشام" (جبهة النصرة سابقاً)، باعتبارها فرع تنظيم "القاعدة". أما عناصر القسم الثاني فهم من التيار السلفي المصري. وقد قدم معظم هؤلاء بعد الخلاف بين "داعش" و"جبهة النصرة" عام 2013، وذلك ضمن خطة قيادة "القاعدة" لدعم موقف الجبهة، من خلال إسنادها بما أطلق عليه وقتها "جماعة خراسان".
والدور السلبي الآخر الذي أداه الشرعيون في الفصائل تمثل في إذكاء الاقتتال بين الفصائل، خصوصاً في الغوطة الشرقية بين "جيش الإسلام" و"فيلق الرحمن"، على قاعدة: "قتال كفار الداخل أوْلى من قتال الجيش الأسدي". وهو ما تسبّب في سيطرة قوات النظام على نحو 40 في المائة من مساحة الأرض، التي كانت تحت سيطرة قوات المعارضة في الغوطة قبل أقل من عامين. وبحسب ناشطين، فإن أبرز الشرعيين الذين أدوا دوراً في تأجيج اقتتال الغوطة من طرف "جيش الإسلام"، هم سمير كعكة (أبو عبد الرحمن)، وأبو هاشم الوزير. ومن طرف "فيلق الرحمن" أبو ياسر القادري، وخالد طفور (أبو سليمان)، إضافة إلى أبو عبد الله، أبو محمد الأردني، وهما شرعيان في "جبهة النصرة".
وفضلاً عن التنافس للسيطرة على المناطق، والعوامل الخارجية، فإن هناك قاعدة فقهية للخلاف بين الفصيلين الأكبر في الغوطة. وعلى الرغم من أن معظم السوريين هم من المسلمين السنة الذين يتبعون الفقه، عن مذهبي الإمامين أبو حنيفة والشافعي، إلا أن مدينتي دوما والرحيبة في ريف دمشق، شكّلتا استثناءً في الحالة السورية، بسبب اتّباع معظم أبنائهما مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وهو المذهب الذي اتبعه سابقاً محمد بن عبد الوهاب (مؤسس الفكر الوهابي)، وأصبح المتبع رسمياً في السعودية وبعض دول الخليج العربي.
وشكّلت دوما منذ قرون عدة عاصمة للمذهب الحنبلي في بلاد الشام، وكان شيخها أحمد صالح الشامي، المتوفى عام 1993، مفتي الحنابلة في المنطقة، بينما كانت دمشق المجاورة وبلدات الغوطة الشرقية المحاذية تأخذ عن الفقهين الحنفي والشافعي والمدارس والتيارات الصوفية التي انبثقت عنهما.
ومع اندلاع الثورة السورية، وتطورها نحو العسكرة، أسس زهران علوش "سرية الإسلام" لتكون أبرز فصيل مسلح في دوما صاحب رؤية إسلامية سلفية واضحة في الإعلان عن التأسيس. وتزامن ذلك مع تأسيس فصيل آخر مغاير هو "الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام"، ممثل "المدرسة الشامية التقليدية"، التي تقدّم صورة واضحة للحركة الصوفية المتناغمة مع نهج الإخوان المسلمين، الذي اندمج لاحقاً مع "فيلق الرحمن" القريب منه فكرياً.
إلا أن النزاعات بين الجانبين، مع دخول "جبهة النصرة" على الخط أيضاً من خلال تحالفها مع "فيلق الرحمن" على قاعدة معاداة "جيش الإسلام"، بدأت بالظهور جلياً منذ أغسطس/آب 2015، وساعد على تغذيتها ما قام به أنصار الفريقين من ترسيخ الخلاف المذهبي كسبب للخصومة بينهما.
من جهتهم، اتهم شرعيو النصرة "جيش الإسلام" أنه "يتلقى دعماً عسكرياً ومادياً من السعودية، ويتلقون أوامرهم منها ولا يخالفون الأسرة الحاكمة فيها، بحسب بياناتهم التي تحض على قتال السعودية". وبعد طرد مقاتلي "جيش الإسلام" من مدينة زملكا، ألقى أبو عبد الله وأبو محمد الأردني، وهما الشرعيان في "جيش الفسطاط" و"جبهة النصرة"، كلمة في مسجد المدينة، هاجما من خلالها "جيش الإسلام"، داعين إلى "قتاله حتى لو أبيدوا عن بكرة أبيهم، فقتال هؤلاء من أجوب الواجبات، وسنسعى لأن نقيم حد الله عز وجل حتى لو فنينا عن بكرة أبينا".