"شتيمة موصوفة"... الشعب يشتم أم الزعيم!

14 نوفمبر 2019
+ الخط -
القصة القصيرة جداً.. هي قصة على كل حال، وهي تنجح وتجد لها مطرحاً بين فنون القص عندما تجمع في سطورها القليلة لغة رشيقة متينة. ينقل المؤلف بضاعته من الحكايات على ظهر اللغة العربية.. حزينة، فرحة، لا فرق، المهم أن تترك هذه الحكايات تأثيراً حسناً في وجدان القارئ.

فهل استطاع القاص السوري عمّار الأمير في مجموعته من القصص القصيرة جداً الصادرة حديثاً عن دار ميسلون للطباعة والنشر والتوزيع تحت عنوان "شتيمة موصوفة"، أن يقدم لنا قصة قصيرة جداً ممتعة وشيقة؟

أعتقد أنه قد فعل، وها هي المجموعة أمامنا في مئة صفحة ضمت عناوين ثلاثة وستين قصة قصيرة جداً. تُكرس هذه القصص نفسها لرصد ومضات من حياتنا في هذه السنوات العجاف التي مرت على وطننا. سنوات الحرب السورية التي صنعت لنا حاضراً جديداً وأنتجت لنا علاقات متشابكة أراد عمّار الأمير تفكيكها ليخلق منها عالماً من تفاصيل صغيرة فصيحة أربكت البشر في علاقاتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية في هذه الحرب الضروس التي طحنت رحاها البشر والحجر والشجر.


يقول في قصة الخيمة الدفتر: زرت مخيماً تناثرت خيماته تحت أشجار الزيتون. كان المخيم فقيراً، قالوا لي إنّ القائم عليه صار غنياً! وقفت أمام طفل صغير حالم، غطت قماش خيمته رسوم، وأحرف عربية، وأجنبية. سألته: بماذا تحلم؟ قال: أريد أن تجف لعبتي التي يمسكها ملقط غسيل من أذنيها، وأريد ناراً تصنع قهوة لأبي، وأريد دفتراً أقلب صفحاته، كرهت الكتابة على قماش الخيمة. خفت أن تجرحه دموعي؛ فخرجت من المخيم مسرعاً تاركاً قلبي هناك. تناهى إلى مسمعي - بعد فترة - خبر احتراق الخيمة الدفتر في المخيم، والسبب: طفل أشعل ناراً، ليصنع قهوة لأبيه الذي أصيب جراء الحرب.

يشتغل عمّار الأمير على مهل في نسج لوحات من المخيلة، تميل في نهجها نحو الواقعية النقدية وتأخذ بدلالات وصور الداخل السوري على نحو واضح، ما يسبغ على السرد كله طابعاً أنيقاً يميزه عن غيره ويهيئ له مكاناً في زحمة المشتغلين بهذا الفن الأدبي. اللافت في سرد القصص القصيرة جداً عناية القاص باختيار المفردات الأغنى والأليق للتعبير وإنشائه للجملة التي تكسر رتابة النثر من جهة وتُنجز الصورة الأعمق والأوضح في رسم الموقف من جهة ثانية.

لنأخذ مثالاً قصة "على كومة تراب": رفع طفل كفه وهي مفتوحة. على يمينه طفلة خجلى تنفض يدها من التراب. وعلى يساره طفل يصنع إشارة نصر بإصبعيه. يلتفون ثلاثتهم حول طفلة لم تصنع أي إشارة، لأنها تشعر بآلام وخدر في موضع يدها التي بترت! كانوا أربعة أطفال في صورة.

قصة "شتيمة موصوفة"، التي حملت المجموعة اسمها، جاءت على الشكل التالي:
لم أُحيِّ، ولن أُحيّيَ البطن الذي حملك يا سيدي الزعيم، لأني أخاف لكثرة بطولاتك أن تتطور تحيتي، فأُحيي النافذة التي أشرقت منها على العالم، تلك التي تقع أسفل بطن من أنجبتك، فتعتبرها شتيمة موصوفة يا سيدي الزعيم.

أربكتني الجمل التي تشرح ما لا يشرح. نافذة، أشرقت، تلك التي تقع أسفل بطن من أنجبتك، لماذا هذا يا عمَّار، لو كان الجاحظ حياً لكتبها كما يجب أن تكتب ولو كان فيها قلَّة أدب. ولكن المؤلف كان مؤدباً في استعمال تعابيره، فهذَّب اللفظ خوفاً من الرقيب المؤدب جداً، فاحتال وعمّى ثمَّ شرح حتى يصل إلى صيغة مقبولة، ولكنها مربكة كثيراً، وما كان له أن يغفل عن أن الجاحظ سمح بذلك في مؤلفاته.
عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.