الفستق السوداني وسيلة تسلية لكثيرين في غزّة، لكنّه من جهة أخرى مصدر رزق عائلات فلسطينية عدّة في القطاع المحاصر. في مخيّم الشابورة في مدينة رفح، جنوبيّ قطاع غزة، تعمد عائلات فقيرة إلى تقشيره وتقطيعه لمصلحة مصانع الحلويات أو المحلات التجارية أو المطاعم. عائلة وحيدة أبو موسى من بين تلك العائلات التي تعتمد على الفستق (أو الفول السوداني) لتأمين احتياجاتها الأساسيّة. بالنسبة إلى وحيدة، "سيّدة الفستق"، فإنّ عملها هذا يضمن لها شراء الأدوية التي تحتاج إليها ابنتها أحلام التي تعاني من سرطان في العظام.
في منزل صغير متهالك، سقفه من حديد وإسمنت، تعيش وحيدة (53 عاماً) مع وزوجها المريض خالد (56 عاماً) وابنتَيها الاثنتَين هديل (23 عاماً) وأحلام (20 عاماً)، وتعمل لساعات طويل في تقشير الفستق وتسليمه إلى صاحب مصنع للحلويات في مدينة رفح. زوجها كان يعمل في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، لكنّه توقّف عن العمل في بداية الألفية، وهو اليوم يعاني مرض السكري وارتفاع ضغط الدم إلى جانب إصابته بجلطات في قدمَيه.
ووحيدة كانت تعمل مع زوجها في صناعة كعك "القرشلة"، لكنّهما توقّفا عن ذلك قبل أربعة أعوام نتيجة قلّة طلب الأفراد والمخابز على حدّ سواء نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة في غزة. وهو الأمر الذي أدّى إلى فقر كبير. وفي عام 2016، شعرت، بحسب ما تقول، بـ"قهر" بعدما ازدادت متطلبات ابنتَيها ووقفت مع والدهما عاجزَين عن تلبيتها. حينها، شجّعتها إحدى جاراتها على العمل في تقشير الفستق. وبالفعل، توجّهت إلى مصنع للحلويات وحصلت على 10 كيلوغرامات من الفستق أنهت تقشيرها سريعاً. وصارت وحيدة تعمل مع ابنتَيها ويحصلنَ على شيقل ونصف الشيقل (نحو 0.42 دولار أميركي) لقاء كلّ كيلوغرام واحد من الفستق، ويقشّرنَ نحو 30 كيلوغراماً في الأسبوع. لكن إصابة أحلام بالسرطان قلبت حياة الأسرة بأكملها.
هذه هي "سيّدة الفستق" (محمد الحجار) |
في العام الماضي، شُخّصت حالة أحلام، بعدما كانت قد عانت من آلام سابقة في قدمها اليسرى. فهي تعرّضت إلى التواء في قدمها تلك في مارس/ آذار الماضي، من دون أن تخفّ آلامها، على الرغم من حصولها على مضادات حيوية ومسكّنات. وفي مايو/ أيار الماضي، بدأت تتنقّل بين الأطباء والعيادات والمستشفيات. تخبر وحيدة: "قصدت عيادة أبو يوسف النجار في رفح وعرضت ابنتي على طبيب عظام قال إنّها تعاني من كسر في القدم، لكنّني اكتشفت لاحقاً أنّه أخطأ في تشخيصها. فأنا عرضتها على طبيب آخر بعدما اشتدّت آلامها، فاكتشف ورماً في قدمها". رفض الطبيب الذي اكتشف إصابة أحلام بالسرطان إخضاعها إلى عملية جراحية، لأنّ ما تستلزمه حالتها غير متوفّر في قطاع غزّة. فالقطاع يعيش أزمة على الصعيدَين الصحي والطبي، مع نقص في المعدات وفي أدوية كثيرة. وشعرت الأم والابنة بالإحباط، لكنّ وحيدة بدأت تقوم بالإجراءات اللازمة للاستحصال على التقارير اللازمة حول حالة ابنتها، فتتمكّن من تلقّي العلاج في الخارج.
... وهذه هي أحلام (محمد الحجار) |
تمكّنت وحيدة من تحديد موعد لانتقال ابنتها إلى مستشفى المقاصد في مدينة القدس المحتلة، على أن ترافقها في رحلة علاجها تلك. الموعد كان في 31 يوليو/ تموز الماضي، لكنّها لم تتمكّن من الحصول على تصريح معبر بيت حانون (إيريتز) لها ولابنتها. حاولت من جديد تقديم المستندات اللازمة، فحُدّد موعد لهما في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لعبور بيت حانون (شماليّ قطاع غزة)، غير أنّه في الليلة نفسها صدر رفض أمني من قبل الاحتلال الإسرائيلي شملها وابنتها.
لم تيأس وحيدة، وتوجّهت مرّة أخرى إلى الهيئة العامة للشؤون المدنية الفلسطينية في غزة، المخوّلة تقديم تصاريح السفر عبر معبر بيت حانون. وحدّد موعد جديد لهما في 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لكنّها عادت لتُبلَّغ بالرفض من قبل السلطات الإسرائيلية. وهو أمر تكرّر للمرّة الرابعة في نهاية يناير/ كانون الثاني من العام الجاري. تقول وحيدة: "ليس لدينا أيّ انتماء سياسي حتى يتمّ رفضنا أمنياً من قبل السلطات الإسرائيلية، ونحن بالفعل لا نهتمّ بالسياسة. لكنّني لا أعلم لماذا نتعرّض لهذا العقاب". تضيف أنّ "ابنتي تعيش على المسكّنات، وهي تتناول اليوم أقوى أنواعها نتيجة آلامها المبرحة"، مشيرة إلى أنّ "ثمّة أدوية تحتاج إليها لا تتوفّر في العيادات الصحية التابعة لوزارة الصحة في غزة. بالتالي كلّ ما أتقاضاه لقاء عملي في تقشير الفستق يخصّص لعلاج أحلام فقط".