"سيرجيو": أكاديمي رهيبٍ عن ديبلوماسيّ حيويّ

06 مايو 2020
"سيرجيو" بحسب فاغنر مورا: ارتباك أداء (مات فينكلْماير/Getty)
+ الخط -
في 19 أغسطس/ آب 2003، يُقتل البرازيلي سيرجيو فييَرا دي ميلو، مبعوث الأمم المتحدّة في بغداد، بعد أشهرٍ قليلة على سيطرة الولايات المتحدّة الأميركية على العراق، في حربها الخليجية الثانية (20 مارس/ آذار ـ 1 مايو/ أيار 2003). عام 2009، يُنجز الأميركي غريغ باركر (1970) وثائقياً عنه بعنوان "سيرجيو"، تفوز كارِن شْمير بجائزة توليفه (المونتاج)، في الدورة الـ25 (15ـ 25 يناير/ كانون الثاني 2009) لـ"مهرجان ساندانس السينمائي". بعد 10 أعوام، يُحقِّق المخرج نفسه روائياً طويلاً بالعنوان نفسه، عن الشخصية نفسها، يُعرض للمرة الأولى في الدورة الـ36 (23 يناير/ كانون الثاني ـ 2 فبراير/ شباط 2020) للمهرجان نفسه أيضاً، قبل أسابيع على بدء عرضه على شاشة المنصّة الأميركية "نتفليكس" (17 أبريل/ نيسان 2020).

ديبلوماسي برازيلي، يدرس الفلسفة في باريس، زمن الحركة الطالبية (مايو/ أيار 1968)، ويُتقن 6 لغات، ويجهد في إحلال السلام في دول تعاني حروباً وتمزّقات، ويُدافع عن حقوق الإنسان، وإنْ كان يتطلّب هذا منه تحدّي الولايات المتحدّة، ممثّلة ببول بريمر، المكلَّف من إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش إعادة إعمار العراق. تجاربه في هذا المجال عديدة: لبنان (1981 ـ 1983)، ويوغوسلافيا السابقة (1993 ـ 1994)، وكوسوفو (يونيو/ حزيران ـ يوليو/ تموز 1999)، وتيمور الشرقية (1999 ـ 2002). له، في مؤسّسات المنظّمة الدولية، وظائف ومناصب، كـ"الهيئة العليا للاجئين" و"الهيئة العليا لحقوق الإنسان". يُصبح منسّقاً مساعداً في "لجنة المساعدات الإنسانية الطارئة". شعاره الأبرز يتحوّل إلى شَاهدٍ على قبره: "التكامل بين التيارات كلّها يُشكِّل تقدّم الإنسانية".

متزوّج وله ولدان. عاشقٌ يُتقن الحبّ ويعيشه. هذا جزءٌ من شخصية رجلٍ يُقتل بعد بلوغه 55 عاماً بأسابيع (مواليد ريو دي جانيرو، 15 مارس/ آذار 1948). مكافح دؤوب من أجل عدالة وحقّ وسلام، رغم فشله في مهمّات مختلفة، فالوقائع الميدانية أقوى، والتشنّجات السياسية أعنف، والانغلاق المانع تنازلات وتسويات أحَدّ.

تفاصيل كثيرة يسردها "سيرجيو" (2020) بتقنية الـ"فلاش باك"، المستخدمة في مواقع كثيرة في السياق الدرامي. التعاون مع البرازيلي فاغنر مورا (1976)، ممثّل شخصية بابلو إسكوبار في "ناركوس" (2015 ـ 2017، "نتفليكس") غير كافٍ لانتشال الروائيّ الطويل هذا من بساطته وسرديّته المسطّحة، ومن لغته الأكاديمية الصارمة في صُنع أفلام سِيَر حياتية. حضور الكوبية الإسبانية آنا دي آرمَس (1988) في دور كارولاينا لارّييرا (موظّفة دولية وحبيبة سيرجيو)، رغم جمالها وسحر أناقتها، غير متمكّن من إخراج العمل من تقطيعٍ مملّ لآلية سرده الحكاية وجوهرها وتفاصيلها، ومن ثقل المناخ الدرامي القاسي، الذي يخلو من حساسية العلاقة الغرامية وانفعال التواصل الروحي والحسّي بينهما.

يُبالغ فاغنر مورا في تقديم ذاك الديبلوماسي، المازج في ذاته بين قوّة شخصية، ورهافة إحساس، وألم اغترابٍ عن ولديه، وخيبة عجزه عن تحقيق ما يرنو إليه من مبادئ وقيم، تصطدم بعنف السياسة ووحشية الحروب. ابتسامة الممثل وانفعاله في لحظاتٍ عدّة متصنّعان. هذا ناتجٌ، ربما، من ارتباكٍ ما في صُنع توليفٍ (كلاوديا كاستلّو) يتوافق مع التقطيع المُتعِب للأزمنة، وتداخلها في سرديّة العمل الديبلوماسي وعنف بلاد ومجتمعات (لـ"العربي الجديد" حوارٌ مع مورا منشور في 13 يناير/ كانون الثاني 2020، بمناسبة تمثيله في "الشبكة الكوبية" للفرنسي أوليفييه أساياس، مع دي آرمَس أيضاً).

يُجمِع نقّادٌ على تفوّق الوثائقي في سرده حكاية رجل وانفعالاته. يقولون إنّ الروائي الجديد أضعف من أنْ يحتمل ما يُثيره قَدَر سيرجيو فييَرا دي ميلو من إثارة خارجة على المعتاد: "يبدو الوثائقي أكثر توافقاً وملائمة وصلة بالموضوع عن هذا الروائيّ الأكاديميّ الرهيب" (تييري شاز، الموقع الإلكتروني للمجلة السينمائية الشهرية الفرنسية "بروميير"، 17 إبريل/ نيسان 2020). "السيرة الحياتية المُنجزة بفضل مخرج وثائقي محنّك، المرتكزة على الأعوام الأخيرة من حياة ديبلوماسي يعمل في الأمم المتّحدة، لا تعثر أبداً على نَفَسِها الروائي ـ الخياليّ" (برونو دورويسّو، الموقع الإلكتروني للمجلة الفنية الأسبوعية الفرنسية Les Inrockuptibles ،14 إبريل/ نيسان 2020).

لـ"سيرجيو" الروائي معطيات كثيرة وتفاصيل عدّة معروفة. لكنّ المساحة المتخيّلة، المُطالَبَة بمنح المتداول فضاءً أوسع لإضافةِ أيّ مختلفٍ أو جديدٍ، غير متمكّنة من تحقيق ذلك. فأسلوب السرد الروائيّ يستفزّ، أحياناً، في التزامه شرطاً حكائياً تقليدياً، وفي خضوعه لـ"فلاش باك" يتكرّر كثيراً من دون تحصين التكرار بجمالياتٍ، تُسقِط عنه سذاجته الفنية.
المساهمون