على بعد أمتار قليلة من وسط مدينة قفصة، جنوب غربي تونس، وبجانب السور البيزنطي، ترتفع مئذنة مسجد "سيدي صاحب الوقت" شاهدة على عراقة هذا المعلم التاريخي الذي يقول مؤرخون إنه ثالث أقدم مسجد في أفريقيا، ويشكو مترددون عليه من تعرضه للإهمال.
ومسجد "سيدي صاحب الوقت"، أو الجامع الكبير كما يسمى في قفصة، تم تشييده خلال عهد الأغالبة في القرن التاسع الميلادي، مثلما تدل على ذلك لوحة رخامية على أحد جدرانه.
وأقيم المسجد على أنقاض كنيسة كما يتبين من رسوم صليب على أعمدة وتيجان بيت الصلاة مغطاة بمادة الجبس.
و"ليس هناك تاريخ محدد بدقة لبناء هذا المسجد"، كما يقول الشيخ محمود بن المختار فاخت، إمام الجامع، مدير فرع التعليم الزيتوني في محافظة قفصة البالغ عدد سكانها نحو 337 ألف نسمة من أصل حوالى 11 مليون نسمة.
والتعليم الزيتوني هو تعليم أهلي تقليدي يرجع إلى جامع الزيتونة، وله فروع في أرجاء تونس، وجرى إيقافه بعد استقلال البلاد وتأسيس الجامعة العصرية بداية ستينات القرن الماضي، لكنه عاد بعد الثورة الشعبية التي أطاحت بالرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
ويستدرك فاخت بقوله: "المرجح هو أن بداية البناء كان عام 70 هجري على يد يزيد بن معاوية، قبل أن يتم الإنجاز عام 103 هجري".
فيما تقول سارة بن حمد، وهي متفقدة في معهد التراث (حكومي)، إن "الأبحاث تفيد بأن تأسيس المسجد يعود إلى القرن الثالث الهجري في العهد الأغلبي، ولم نجد ما يدل على سنة تأسيس المسجد تحديداً، وما تم ذكره إلى الآن هو مجرد اجتهادات".
وتوضح بن حمد، التي يقوم عملها على متابعة أعمال الصيانة والترميم، في حديث مع وكالة الأناضول، أن "المسجد شهد عمليات ترميم وتحسين في الفترة الحفصية (أسسها أبو زكريا يحيى بن حفص في تونس ودامت بين عامي 1229 و1574) والعثمانية (منذ 1574 وحتى 1881)".
و"مع فتح معهد التراث في قفصة قبل ثلاث سنوات، تعهد المعهد بالمحافظة على هذا المعلم.. وبالتأكيد فإن الأبحاث التي ستجرى ستؤكد بالتحديد تاريخ هذا المسجد"، وفقاً للمتفقدة في معهد التراث.
وتشغل قاعة الصلاة قرابة 60 متراً على 15 متراً، وخصص جزء منها كقاعة صلاة منفصلة للنساء وساحة خارجية تستغل صيفاً لأداء صلاة العشاء، والتراويح حيت يحل شهر رمضان في فصل الصيف.
ووفقاً لإمام المسجد، "يجمع المؤرخون على أن الجامع الكبير في قفصة هو ثالث أقدم جوامع أفريقيا بعد مسجدي عمرو بن العاص في القاهرة بمصر وعقبة بن نافع في مدينة القيروان التونسية".
و"المسجد الكبير" في قفصة مصنف معلماً تاريخياً من قبل الدولة التونسية منذ 1 مارس/آذار 1915، بأمر من الباي (والي عثماني) محمد الناصر باي (حكم من 11 مايو/أيار 1906 إلى 8 يوليو/تموز 1922).
ويشكو مترددون على مسجد "سيدي صاحب الوقت" من إهمال يتعرض له المسجد من قبل المسؤولين والباحثين، بحسب منتقدين.
أحد هؤلاء الشاكين هو الشيخ الشادلي غلالة، أحد كبار الحي الذي يوجد به المسجد وأحد أكثر المترددين عليه للصلاة، حيث يقول: "للأسف هذا المسجد لم يلق اهتماماً من طرف المسؤولين والباحثين رغم أنه معلم تاريخي شاهد على حضارة إسلامية".
في أحد أركان المسجد، وتحديداً الجهة الشرقية حيث كان المحراب الأصلي للمسجد قبل أن يتم تحويله بعد التوسعة، توجد على أحد رفوف الخزانات المهملة مخطوطات نادرة كتبت بخط اليد؛ لكن جراء الإهمال لم يعد باستطاعة القارئ قراءة عناوينها ولا بعض محتوياتها.
وتلك المخطوطات تعود الى بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وتتحدث عن السيرة النبوية، وتفاسير أحاديث والقرآن، ومن الصعب التعرف على مؤلفيها لتلف أجزاء منها.
توفيق غلالة، وهو مؤذن المسجد الكبير، يقول إن "هذا المكان أصبح روضة قرآنية، وكانت به العديد من المخطوطات لكن تم نقلها إلى جهات غير معلومة.. للأسف لم نجد متابعة لهذا المسجد من الدوائر الرسمية".
في أواسط تسعينيات القرن الماضي قامت السلطات المحلية والمركزية بإعادة تهيئة (ترميم) المسجد، لكنها، وبحسب غلالة، "لم تكن وفق مقومات صيانة المعالم التراثية.. فلم يكن البلاط مثلا متطابقاً مع الزخرفة الإسلامية القديمة".
ومنذ تأسيس المسجد وضعت أمامه ساعة شمسية، وجاء منها اسم المسجد (سيدي صاحب الوقت)، ويستدل بهذه الساعة على توقيت الصلوات الخمس عبر خطوط العرض والطول التي أقيمت بهندسة رياضية.
ومن هذه الساعة جاءت تسمية المسجد بـ"سيدي صاحب الوقت"، وهي تسمية شعبية غير مدرجة في الدفاتر الرسمية، حيث كان المؤذن قديماً يحترم بدقة وصرامة التوقيت، فيؤذن حالما يدخل وقت الصلاة.
ويجمع مسؤولون في المعهد، تحدثوا للأناضول شريطة عدم نشر أسمائهم، على أنه "صار خطأ فادح في عملية الترميم، وكان يجب أن تقوم تحت إشراف مختصين، وليس تحت إشراف (شركات) مقاولات خاصة غير متخصصة في مثل هذه العمليات".
وعلى مثل هذه الاتهامات وغيرها الكثير، يرد القائمون على معهد التراث في قفصة بأنهم ليسوا مسؤولين عن أي عمليات ترميم أو إهمال أصاب مسجد "سيدي صاحب الوقت" خلال الحكومات المتتالية في عهد بن علي (1987–2011).