"سنك" العراق... منطقة تاريخية أعاد إليها المتظاهرون شهرتها

14 فبراير 2020
انتفض العراقيون في السنك (أحمد الربيعي/ فرانس برس)
+ الخط -
المجزرة التي شهدتها منطقة السنك، والتي راح ضحيتها 25 قتيلاً ونحو 130 مصاباً، أعادت الذكير بهذه المنطقة التاريخية، التي يقال إنها ربّما حملت هذا الاسم نتيجة إرث عثماني

أظهرت الاحتجاجات العراقية، التي ما زالت تشهدها البلاد منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أسماء عدة لشخصيات اشتهرت بحضورها في الاحتجاجات ومواقع ومدن تحولت إلى حديث وسائل الإعلام العالمية فضلاً عن العربية. أبرزها ما اشتهرت به منطقة السنك التي شهدت مجزرة تسببت بها مليشيات مسلحة بحق المتظاهرين.

ليل 16 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، اقتحم مسلحون ملثمون يستقلون سيارات مدنية رباعية الدفع، مواقع المحتجين في منطقة السنك، وفتحوا النار بأسلحتهم الرشاشة بشكل عشوائي ومن مسافات قريبة باتجاه المحتجين، ما أدى إلى مجزرة راح ضحيتها 25 قتيلاً و130 مصاباً.
وكان المحتجون الذين تمركزوا في ساحة التحرير، وسط العاصمة بغداد، قد وسّعوا من نطاق احتجاجاتهم بعدما زادت أعداد المتظاهرين وشاركت الكثير من العائلات فيها. هؤلاء تجاوزوا منطقة السنك التي تقع على امتداد ساحة التحرير وتتصل بساحة الخلاني وجسر السنك المؤدي إلى الكرخ، الطرف الثاني من بغداد.

السنك جزء مهم من تاريخ بغداد
الحديث عمّا دار في السنك، سواء المجزرة بحق المحتجين، أو تحويلها من قبل المتظاهرين إلى واحدة من مناطق الاحتجاج، يثير رغبة في التعرف إلى هذه المنطقة ومعنى اسمها الغريب الذي لا يمت إلى اللغة العربية بصلة. ويقول ستار البغدادي، الباحث في التراث العراقي، إن "السنك" إحدى أقدم مناطق بغداد، وكانت من المناطق التي تزود أسواق بغداد بالمنتجات الزراعية في عهد الدولة العباسية. يضيف لـ"العربي الجديد"، أن منطقة السنك كانت امتداداً لـ"باب الأزج"، أحد أبواب بغداد الرئيسية. ومنذ زمن الدولة العباسية وحتى أواسط القرن التاسع عشر، كان يسكنها كبار التجار والقادة والأثرياء، لقربها من أسواق بغداد المهمة ودواوين الحكم، فضلاً عن أنها تطل على نهر دجلة، ما جعل منها منطقة جميلة.




يُتابع: "لكن هذه المنطقة، وبحسب ما تشير الوثائق والدراسات، لم تكن معروفة باسم السنك قبل حكم العثمانيين في بغداد"، مبيناً أن "العثمانيين هم الذين أطلقوا الاسم الحالي، (السنك)، باعتبار أن جزءاً منها عبارة عن مزارع واسعة. وكان المزارعون يعتمدون على السماد الحيواني لتحسين إنتاجهم الزراعي وتحقيق استدامة التربة، ما كان يؤدي إلى انتشار الذباب على السماد". يتابع: "الروايات القديمة تتحدث عن أن أحد القادة العثمانيين أزعجه منظر الذباب في المنطقة، فأطلق اسم سنكلر عليها، والتي تعني الذباب باللغة التركية. واعتمد العراقيون اسم السنك لسهولته.

ويُقّلل البغدادي من حقيقة الروايات التي تقول إن الذباب كان ينتشر في المنطقة الزراعية هذه، ما أدى إلى إطلاق العثمانيين اسم السنك عليها. يضيف أن "هذا غير معقول. عاش كثيرون منا في قرى، تحديداً في مناطق زراعية تعتمد على السماد الحيواني. الذباب يتجمع حول السماد، لكن لا ينتشر في المزارع. ولو أنه كان ينتشر في المزارع لما سكن كبار القوم والأثرياء في هذه المنطقة. حتى القرن الخامس عشر، أي حين حكم العثمانيون العراق، كان لا يزال هناك أثرياء يعيشون في هذه المنطقة".

تدريجياً، كثر البناء في السنك، بحسب البغدادي. يضيف أنها تحولت إلى حي يتصل بأحياء أخرى امتدت لها يد العمران. يتابع: "حين خسر العثمانيون في الحرب العالمية الأولى، وأصبح العراق تحت سيطرة البريطانيين، ودخلت القوات البريطانية إلى بغداد في مارس/ آذار عام 1917، اختار الجنرال فردريك ستانلي مود، قائد القوات البريطانية في العراق، منطقة السنك مقراً لقواته". يضيف أن اختيار مود لهذه المنطقة يعني أنه كان على دراية وفطنة، كونها تقع ضمن مركز المدينة ومطلة على النهر حيث يسهل تنقل القوات البريطانية عبر دجلة. كذلك، كانت ترسو البواخر التي تنقل المؤن والبريد من الخليج العربي ومن مناطق أخرى في النهر، كون نهر دجلة يمر في البلاد من الشمال إلى الجنوب، وترجم البريطانيون كلمة السنك الى الإنكليزية لكن لم يكن لها صدى، وبقيت السنك.



ويشير إلى أن السنك أخذت شكلاً جديداً منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وشهدت حركة بناء سريعة حولها، وكانت مثل بقية الأحياء المجاورة، مثل حي المربعة وحي باب الشيخ وحي الفضل والأحياء المتفرعة من شارع الرشيد، وقد اعتمدت تصاميم معينة وبيوت بغدادية برزت في تلك الفترة بطرازها المعروف الذي يعتمد شرفات الخشب المسماة "الشناشيل".

لكن السنك اليوم لم تعد مثلما يروي الباحث ستار البغدادي. هي تُعرف بأنها من أبرز أسواق بيع قطع غيار السيارات، والمواد الكهربائية وتجارة التجزئة أيضاً. ويقول فريدون حساني، الذي كان يسكن منطقة السنك لنحو خمسين عاماً، إنها كانت منطقة تسكنها العائلات البغدادية القديمة المتجذرة أصولها في بغداد، مبيناً أن عدداً قليلاً من العائلات المتحدرة من محافظات أخرى سكنتها "بسبب ظروف العمل أو الدراسة في بغداد".

ويوضح، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "كان الحي منذ ولدت فيه عام 1941، من الأحياء السكنية البغدادية التراثية الجميلة، يسكنه عدد كبير من الفنانين والمثقفين والأدباء". لكن حساني يقول إن موقع حي السنك كان سبباً في "تدميره"، مبيناً أنه "منذ سبعينيات القرن الماضي، افتتحت محال تجارية في هذا الحي. وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأ هذا الحي يتحول إلى سوق تجاري لبيع المواد الاحتياطية بسبب موقعه المميز".

كما عُرف حي السنك بكونه من أحياء بغداد المختلطة، التي يسكنها خليط من الأعراق والديانات والمذاهب، وتشتهر مثل تلك الأحياء بتآلف كبير بين سكانها على الرغم من تلك الاختلافات.

جينا بولص (50 عاماً)، تقول لـ"العربي الجديد"، إنّها ولدت في حي السنك، وعاشت فيه حتى أنهت دراستها الثانوية، ورحلت برفقة عائلتها إلى حي آخر بعدما انتشرت المحال التجارية في كامل الحي السكني. تضيف: "في منطقة السنك، توجد كنيستنا التي نقيم فيها قداساتنا ومسجد قريب أيضاً. التعايش بين الأديان كان سمة من سمات سكان هذا الحي".




وزاد من تحول هذا الحي إنشاء جسر فيه في العام 1985، أطلق عليه جسر السنك ليكون أحد الجسور التي تربط جانبي بغداد: الرصافة والكرخ، ونال هذا الجسر شهرة كبيرة أيضاً بعدما سيطر عليه المحتجون وقطعوه في إطار تصعيد الاحتجاجات الجارية حاليا في البلاد، التي تسببت بتقديم عادل عبد المهدي استقالته وحل محله في رئاسة الوزراء محمد توفيق علاوي، ليكون جسر السنك أيضاً من بين الرموز التي عرفتها احتجاجات العراقيين.