"روما": سينما ألفونسو كوارون وسيرته

28 سبتمبر 2018
ألفونسو كوارون (الموقع الإلكتروني للمهرجان)
+ الخط -
عبر شخصيات رئيسية قليلة، وقصّة بسيطة للغاية، وخيوط سردية واضحة المعالم، تمكّن المخرج المكسيكي ألفونسو كوارون (1961)، في جديده "روما" (2018)، سرد تفاصيل حقبة كاملة، اجتماعية وسياسية واقتصادية، بسهولة كبيرة. صحيح أن الأحداث تحصل مطلع سبعينيات القرن الـ20، في "حي روما" في مكسيكو سيتي، لكنها زاخرة بمفاصل تجعل الفيلم بانوراما تأريخية للسياسي والاجتماعي والاقتصادي في المكسيك خلال أعوام عديدة. ليس هذا فقط، لأن "روما" ـ الفائز بجائزة "الأسد الذهبي" في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ يسرد أساسًا سيرة شبه ذاتية للمخرج نفسه. 

الرائع في "روما" ـ كتابة كوراون وإخراجه وتصويره ومونتاجه ـ أن ذاتية المخرج غير طاغية على ما يُقدِّمه: لا القصّة ولا الأحداث ولا الشخصيات تتمحور حول شخصه. الذاتيّ والخاص كامنان في التفاصيل الصغيرة التي تمّ الاشتغال عليها بعناية دقيقة، إنْ تكن التفاصيل خيالية أو ذات إحالات واقعية. مثلاً: مَشاهد مُحاولة ايقاف السيارة في المنزل، وهي مُكرّرة مع الزوج ثم الزوجة. المشهد الافتتاحي الطويل لأرضية المنزل، والتنويعات عليه وعلى تنظيف الأرضية من فضلات الكلب، ومرور الفرقة الموسيقية في الشارع أمام المنزل، وغيرها من المشاهد اللافتة للانتباه والمُكرَّرة، ذات الإحالات الخيالية.

المَشاهد ذات الإحالات الواقعية المُلامسة للتاريخ كثيرة أيضًا. مثلاً: مشهد الزلزال وما نتج عنه في المستشفى. التصوير الرائع لأحداث التمرّد والقتل. في "روما"، هناك مَشاهد مُنفَّذة ليس فقط بحِرفية تقترب من الكمال، بل بفنيّة تؤكّد على أصالة المخرج وموهبته. عبر المَشاهد الفنية تلك، استعرض ألفونسو كوارون تنوّع الأسلوبية وتفرّدها وبراعتها ومهارتها.

من أبرز تلك اللمسات الفنية الملحوظة جماليًا الانتقال من مَشاهد ذات لقطات بعيدة، بالكاد تظهر عبرها وجوه الشخصيات، إلى مَشاهد اللقطات المُقرّبة جدًا لوجوه الشخصيات نفسها، خاصة وجه الخادمة. مَشاهد أخرى ساكنةٌ تمامًا، تكتفي الكاميرا فيها بالرصد؛ وأخرى توظَّفَ فيها الكاميرا المحمولة. مشهد البحر والغرق الوشيك للأطفال لولا إنقاذهم من قِبَل الخادمة، مُصَوَّر كله في لقطة واحدة طويلة تتتبّع فيها الكاميرا الشخصيات بتمكّن جمالي مُدهش يستمرّ دقائق ساحرة.

تلك المَشاهد الموصوفة سابقًا لتبيان جماليتها المتفرّدة ستبقى في الذاكرة طويلاً، لفنّيتها وأسلوبيّتها وصدقها وأصالتها. من ناحية أخرى، التنوّع الملموس في الفيلم كلّه، تصويرًا ومونتاجًا وبناءً، له ما يُماثله في كتابة السيناريو بالغ البساطة. فشخصياته غير مُعقّدة وغير مُركّبة وغير مُتعدّدة، ومُتشعّبة. إبداع سيناريو ألفونسو كوارون مُتعلّق بكيفية سرد الحكاية، وتقديم كلّ شخصية من الشخصيات القليلة أساسًا. رسم خلفيات الأحداث وتطوّر الشخصيات في ظلّها، دامجًا الخاص بالعام باتساقٍ وانسجامٍ كبيرين.

رغم التوّرط الأسلوبي المعتَمد بخصوص الشخصيات والأحداث، إلا أنّ ألفونسو كوارون مال إلى بناء حاجز فاصل بين المُشاهِد وبين تلك الشخصيات، بما يحول دون التحام أو اندماج تام بينه وبينها. لذا، في لحظات كثيرة ومَشاهد عديدة، وبفضل التصوير وزوايا اللقطات وأسلوبية الإخراج وصوغ السيناريو، يحدث شعورٌ بالاقتراب الشديد إلى درجة مُعانقة الشخصيات والتورّط معها، كأنها شخصيات في فيلم تسجيلي واقعي. وفي لحظات أخرى، يقع العكس تمامًا: مُشاهدة ما يحدث من دون اكتراث، أو بالكاد يتمّ تذكّر وجوه الشخصيات أو أزماتها، كما في حلمٍ. والفيلم ـ الذي تناول مُخرجه، بمهارة فائقة، الاجتماعيّ والذاتيّ والمأساويّ والسياسي ـ برع في تقديم الانتقالات الأسلوبية الساحرة.

يتذكّر ألفونسو كوارون تفاصيل حياته، والحي الذي نشأ فيه، والخلفيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لبلده مطلع سبعينيات القرن الـ20، من خلال أسرة بورجوازية، وعبر عينيّ امرأة شابّة وتجربتها، هي خادمة الأسرة نفسها. الخيار الأنثوي الطابع يُحيل إلى قوّة المرأة وصلابتها ودورها وحضورها في خضم التحوّلات السياسية والاجتماعية.

إنه خيار فني آخر يُحسب له من دون شكّ، ورؤيته الفنية الثاقبة ألهمته إسناد دور البطولة لممثّلة غير مُحترفة (ياليتزا أباريسيو)، التي أدّت دور كليو بمهارة كبيرة، إلى درجة يصعب معها نسيان دورها المحوري، وتعبيرات وجهها التي هي مزيج الحزن والبراءة والجهل وقلّة الحيلة.

ارتكزت الحبكة على العائلة البورجوازية الصغيرة تلك، عائلة الدكتور أنطونيو (فرناندو غريدياجا) وزوجته صوفيا (مارينا دي تافيرا) وأولادهما الـ4. ودارت الأحداث داخل العائلة: أنطونيو وغرامياته الخفية، ثم سفره المزعوم، وأخيرًا انفصاله عن زوجته وأسرته. الأولاد وسلوكهم فيما بينهم، وبينهم وبين الوالدين. صوفيا وحياتها المُستقرة، قبل انقلابها رأسًا على عقب إثر اكتشافها حقيقة زوجها، ثم مكابدتها تبعات تلك الحقيقة، والواقع المُترتب عليها، ثمّ الانفصال عنه. لفترات طويلة، يبدو هذا كلّه كأنه القصّة الرئيسية للفيلم، مع لمحات سياسية وإحالات لطبيعة الأوضاع المُحيطة بالعائلة.

لكن الأمر غير ذلك، والقصّة الأصلية هي قصة الخادمة كليو، الفتاة الصغيرة البريئة والساذجة، القادمة من الأرياف، والمرتبطة بشاب أهوج مُراهق غير جدير بتحمّل المسؤولية، والمنضم إلى ميليشيا مُسلّحة يظهر دورها لاحقًا، يتخلّى عنها في ذروة علاقتهما بعد علمه بحَبَلها. بالتالي، سيُنسى تقريبًا كل ما يتعلق بالأسرة وتفاصيلها الحياتية، وستطغى كليو وقصّتها وحملها حتّى مشهد فقدانها الجنين في المستشفى (وهو مشهد رائع سينمائيًا)، الذي يصعب عدم ربطه بمشهد الزلزال.

على خلفية قصّة كليو، يطفو كلّ ما هو سياسي. تحتدم الأمور، ويحدث صراع، وتُراق دماء، ويسقط قتلى. هذه إحالة أخرى تُسقِط الاجتماعي على السياسي (أو العكس)، وتصهرهما معًا في سياق نسيجي بالغ الانسيابية.

بخلطه الواقعيّ بالخياليّ والمشاعر بالذاكرة، أنجز ألفونسو كوارون وثيقة فنية بالغة الصدق والأصالة، قُدّمت عبر لمحات إنسانية الاجتماعيّ والسياسيّ اللذين عاصرهما وعايشهما في تلك الآونة، في حيّه القديم "روما".
المساهمون