"راعي" الانقسام و"ذئب" الاتفاقات
مشهد احتفالي آخر. سلامٌ وقبلاتٌ وضحكاتٌ لعدسات الكاميرات، وأحضان وتفاصيل وتسريبات. هذا المشهد الذي كان في القاهرة، قبل أيام، مع إعلان حركتي فتح وحماس التوصل إلى اتفاق جديد لتحقيق المصالحة بينهما. اتفاق جديد يضاف إلى الكم الكبير من الاتفاقات التي تم التوقيع عليها في السنوات الماضية من عمر الانقسام الفلسطيني.
كم مرة تكرّر مشهد الاحتفالات، وكم مرة قرأنا عن هذه الاتفاقات، طالعنا تفاصيلها المتشابهة، والتي دائماً ما توصل إلى النهاية نفسها. لم يعد أحد مهتماً بالتعداد، من الأفضل انتظار ما ستؤول إليه الأمور. ومن خلال ما أنعمه علينا الفصيلان من خبرة في متابعة تفاصيل خلافاتهما واتفاقاتهما، من، الأفضل خفض منسوب التفاؤل إلى حده الأدنى، ويستحسن التوقف عنه مطلقاً، لنرى إلى أي نهاياتٍ سيقود الاتفاق الجديد.
أساساً، لا جديد في اتفاق القاهرة (الجديد) يدعو إلى التفاؤل، هي البنود نفسها التي تم إقرارها في "اتفاق الشاطئ"، نسبة إلى المخيم في قطاع غزة، حيث احتضن منزل نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، اسماعيل هنية، حفل التوقيع في الثالث والعشرين من أبريل/نيسان الماضي.
مرّت الأيام بعد ذلك الاتفاق، ولم يتغيّر شيء في الجوهر؛ تم الإعلان عن حكومة الوحدة الوطنية، برئاسة رامي الحمد الله، ولم يعد هنية يحمل مسمّى رئيس الحكومة في قطاع غزة، لكن الأمور على أرض الواقع بقيت كما هي. بقيت الحكومة حاكمة للضفة الغربية فقط لا غير، واستمرت حركة حماس في إدارة تفاصيل الحياة، أو ما بقي منها، في قطاع غزة، قبل أن تتدهور الأمور في أثناء العدوان الإسرائيلي وبعده، ويخرج مسؤولو الحركتين إلى العلن لتبادل الاتهامات والتخوين السياسي.
أيضاً، هذا مشهد مكرر وممجوج، وتم الاعتياد عليه في مراحل العلاقة بين الحركتين، قبل أن يفاجئ الطرفان الجميع بإعلان اتفاق جديد، من دون أي مقدمات أو أرضيات تصالحية حقيقية، تسمح لهذا الاتفاق بالتطبيق. اتفاق القاهرة الأخير قد لا يخرج عن هذا السياق، خصوصاً أن بنوده بقيت مبهمة، وكررت ما سبق وتم التفاهم حوله. وما يعزّز مثل هذه النظرة التشاؤمية إلى الاتفاق الجديد بنده التاسع، الذي رحّل التطبيق إلى مقبرة اللجان، إذ نص على "تشكيل لجنة لمتابعة الاتفاق والاشراف على تطبيقه، وضمان رفع العراقيل التي قد تحدث خلال التنفيذ".
هكذا، بدون أي آلية بالتطبيق، تم الاحتفال، وانفض جمع القاهرة على المشهد التصالحي. لم يتم التطرق إلى التفاصيل، حيث كان الشيطان دائماً يكمن للاتفاقات السابقة. ماذا عن موظفي القطاع الذين عينتهم حكومة "حماس"، وكيف ستتم السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية على القطاع، في ظل الوجود العسكري الكثيف لقوات "حماس" هناك، وماذا عن المعابر وآليات إدارتها؟ تفاصيل كثيرة لا إجابة شافية لها، وتركت لسياق التطبيق لاحقاً. الإجابة الشافية الوحيدة أن "اتفاقاً شاملاً وقع"، واحتفالية جديدة أضيفت إلى مسار العلاقات بين الفصيلين الكبيرين.
الفلسطينيون في قطاع غزة والضفة الغربية باتوا مدركين هذا الواقع الانفصامي في الاتفاقات التصالحية. وعلى هذا الأساس، يتعاطون مع كل اتفاق جديد ببرودٍ كثير، وخصوصاً أن مسار الاتفاقات بات مشابهاً لحكاية الراعي والذئب، في الفارق في المآلات. كان الحماس يأخذ الفلسطينيين، بدايةً، مع كل إعلان للتصالح، قبل أن يتم الاصطدام بواقع الخلاف المتجذر، تماماً كما كان الراعي يستنجد مازحاً بأهل القرية من الذئب، حتى يوم أتى الذئب حقيقة لم يصدقه أحد.
هكذا هي الأمور اليوم، لا أحد بات مصدقاً لإعلانات التوافق، ولسان حال الفلسطينيين يقول: "ليتصالحوا مع أنفسهم، نحن بانتظار التطبيق على الأرض".