رغم تناول "الذئاب" (2019)، للمكسيكي صمويل كيشي ليوبو (1984) ـ الفائز بالجائزة الكبرى للجنة التحكيم الدولية لأفضل فيلم، وجائزة السلام في قسم "جيل"، في الدورة الـ70 (20 فبراير/ شباط ـ 1 مارس/ آذار 2020) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي" ـ قصّة طفلين مكسيكيين، والغوص في حياتهما وعوالمهما، يطرح الموضوع أساساً مشكلات ما بعد الهجرة والهوية، ومحاولة العيش في بلدٍ مختلف ومجتمع مغاير، وبناء حياة جديدة.
يختلف "الذئاب" عن أفلامٍ تناولت الهجرة المكسيكية إلى الولايات المتحدة الأميركية تحديداً. اختلاف نابع من أنّه لا يرتكز على الحلم بمستقبل مُغاير على الأراضي الأميركية، أو بصعوبات تخطي الحدود ومخاطرها من عدمها، أو كيفية اجتيازها بطرقٍ مشروعة وغير مشروعة. فالفيلم يبدأ مع انتقال أسرة إلى "ألبوكيركي" في ولاية نيو مكسيكو، من دون الخوض في تفاصيل تلك الهجرة، أو كيفية حدوثها، وإنْ بدا جلياً أنّها "هجرة شرعية".
يتمثّل جديد "الذئاب"، ومكمن قوّته وتميّزه، في تناوله تبعات الانتقال على أسرة مُهاجرة من وجهة نظر طفلين، ماكس (ماكسيمليانو نثار ماركيز) وليو (ليوناردو نثار ماركيز). فيه، لا يُثير صمويل كيشي قضايا متناولة سابقاً، كصعوبة العثور على عمل، وتعلّم اللغة، والتأقلم مع عادات وتقاليد مغايرة، وصعاب أخرى تشتغل عليها أفلام تتناول الهجرة والمهاجرين.
الاستعانة بالطفلين وعوالمهما تكفي لنقل وجهة نظر كيشي، وتقديم الجديد، رغم أنّها سينمائياً مهمّة ليست يسيرة، إذْ تتأرجح بين النجاح والفشل، وبين الإقناع والافتعال. في "الذئاب"، حقّق كيشي المعادلة الصعبة، وهذا يُحسب له، إذْ يبدو جلياً حُسن تدريبه الطفلين وتوجيههما، رغم حداثة سنّهما، إذ اتّسم أداؤهما بالتلقائية غالباً، كذلك أنّ الانسجام الملحوظ بينهما في معظم المَشاهد اقترب بالأداء من الواقع. فعلى امتداد الفيلم، تتتابع الأحداث عبر عقليهما وتفكيرهما وعيونهما، ويظهر سلوك يجمع بين البراءة والنضج، والطيش والتهوّر، والخوف وحُسن التصرّف، والاستمتاع بالوقت والشعور بالملل. والأهم: التشبّث بحلمهما المشترك في الذهاب إلى مدينة "ديزني" للألعاب.
ما تواجهه الأم لوسيا (مارتا رييس أرياس) من صعوبات العثور على مسكن ملائم بسعر بخس، ورحلة البحث عن عمل لتوفير حياة شبه لائقة لها ولطفليها، يمرّ المخرجُ عليها سريعاً. فحتّى منتصف الفيلم، لا تظهر تحديداً طبيعة الأعمال التي تمارسها. ما يُعرف لاحقاً، ويؤكّده السيناريو، أن عملها في مغسل، إلى أعمال النظافة، يستنفد طاقتها ووقتها، ما يُبعدها ساعاتٍ طويلة عن منزلها وطفليها. حتّى أيام العطل تمضيها في الاهتمام بشؤون المنزل، أو تعليم ماكس وليو (8 و5 أعوام) الإنكليزية، أو النوم طويلاً، أحياناً في مغطس الحمّام، هرباً من ضجيج الطفلين وإزعاجهما. حتّى حجم معاناتها، وقلقها على طفليها المتروكين بمفردهما، وما تتحمّله بسبب الوفاة الغامضة لزوجها الشرطي في المكسيك، لا يتوقف صمويل كيشي عنده كثيراً؛ وإنْ كان للحضور القوي للوسيا، بشخصيتها الصلبة وملامح وجهها المعبّرة بصدق عن عمق مأساتها، أثره البالغ في مَشاهد عدّة.
"الذئاب لا تبكي. تعضّ وتعوي وتحمي منازلها"، تقول لوسيا لطفليها، بعد أنْ تسجّل لهما بصوتها قوانين عدّة يجب عليهما اتباعها وعدم الخروج عليها، إنْ أرادا فعلاً تحقيق حلمهما بالذهاب إلى "ديزني": عدم التشاجر والخروج من المنزل، المحافظة على نظافته، إلخ. يحاول الطفلان التزام تلك القواعد قدر المستطاع. في البداية، تصير الشقة الصغيرة، الممنوع عليهما مغادرتها، عالمهما، وتصبح جدرانها حدود هذا العالم، وشاشة عرض لمغامراتهما الخيالية البريئة، المتسرّب إليها قسوة واقع لا يمكن إغفاله. مع الوقت، ونظراً إلى مُغريات كثيرة، أوّلها غياب الرقابة، يخرق ماكس وليو المحظور: شجار بسيط، تزيين الجدران والورق برسومات "ذئاب النينجا"، محاولة التواصل مع الخارج عبر النافذة الموصدة. ثم الرغبة المُتجدّدة في استشكاف الخارج، والاستجابة لنداءات الأطفال بالانضمام إليهم واللعب معهم في الباحة.
أخيراً، هناك الخروج من أسر الشقّة الصغيرة عارية الأثاث، والفارغة من كلّ ترفيه، والباعثة على الملل. خروج يترتب عليه مواقف غير سارة لهما، ولأمّهما لاحقاً، كغلق باب الشقّة دونهما، وسرقة مدخرات والدتيهما. لكنّ للخروج إيجابيات أيضاً، كأيّ تجربة حياتية: تعرّفهما إلى الزوجين تشان (جونسون تي لاو وسي لاو)، مالكي العقار، اللذين يتعاملان معهما بلطف وحنو، ويطعمانهما ويعطفان عليهما. يتّسم "الذئاب"، الذي يعتمد في أجزاء كثيرة منه على السيرة الذاتية لصمويل كيشي، بحزن وواقعية قاسية، لكنّه مفعم بالأمل والحياة والصدق. مفردات أجاد المخرج التعبير عنها بأمانة، من دون افتعال أو ابتزاز لعواطف المُشاهد؛ وبتوليفٍ فنيّ جمع التصوير الواقعي بالرسوم المتحركة الملوّنة ثنائية الأبعاد، بالإضافة إلى لقطات شبه تسجيلية، بين حين وآخر، لشخصيات مكسيكية الأصل (بينها أبطال الفيلم الثلاثة) تُحدّق بالكاميرا مباشرة، ومنحها حرية مطلقة في التعبير بوجوهها عمّا يعتمل داخلها.
في "الذئاب"، جهدٌ ملحوظ لدور المونتاج (يوردي كابو وكارلوس اسبينوزا وصمويل كيشي) في الحفاظ على الإيقاع، وتكثيف الانتقالات السريعة بين أحجام اللقطات، إذْ تطلّب رصد حركة الطفلين ونشاطهما وعنفوانهما تصويرهما بأحجامٍ مختلفة، مقرّبة ومتوسّطة وبعيدة.
يتمثّل جديد "الذئاب"، ومكمن قوّته وتميّزه، في تناوله تبعات الانتقال على أسرة مُهاجرة من وجهة نظر طفلين، ماكس (ماكسيمليانو نثار ماركيز) وليو (ليوناردو نثار ماركيز). فيه، لا يُثير صمويل كيشي قضايا متناولة سابقاً، كصعوبة العثور على عمل، وتعلّم اللغة، والتأقلم مع عادات وتقاليد مغايرة، وصعاب أخرى تشتغل عليها أفلام تتناول الهجرة والمهاجرين.
الاستعانة بالطفلين وعوالمهما تكفي لنقل وجهة نظر كيشي، وتقديم الجديد، رغم أنّها سينمائياً مهمّة ليست يسيرة، إذْ تتأرجح بين النجاح والفشل، وبين الإقناع والافتعال. في "الذئاب"، حقّق كيشي المعادلة الصعبة، وهذا يُحسب له، إذْ يبدو جلياً حُسن تدريبه الطفلين وتوجيههما، رغم حداثة سنّهما، إذ اتّسم أداؤهما بالتلقائية غالباً، كذلك أنّ الانسجام الملحوظ بينهما في معظم المَشاهد اقترب بالأداء من الواقع. فعلى امتداد الفيلم، تتتابع الأحداث عبر عقليهما وتفكيرهما وعيونهما، ويظهر سلوك يجمع بين البراءة والنضج، والطيش والتهوّر، والخوف وحُسن التصرّف، والاستمتاع بالوقت والشعور بالملل. والأهم: التشبّث بحلمهما المشترك في الذهاب إلى مدينة "ديزني" للألعاب.
ما تواجهه الأم لوسيا (مارتا رييس أرياس) من صعوبات العثور على مسكن ملائم بسعر بخس، ورحلة البحث عن عمل لتوفير حياة شبه لائقة لها ولطفليها، يمرّ المخرجُ عليها سريعاً. فحتّى منتصف الفيلم، لا تظهر تحديداً طبيعة الأعمال التي تمارسها. ما يُعرف لاحقاً، ويؤكّده السيناريو، أن عملها في مغسل، إلى أعمال النظافة، يستنفد طاقتها ووقتها، ما يُبعدها ساعاتٍ طويلة عن منزلها وطفليها. حتّى أيام العطل تمضيها في الاهتمام بشؤون المنزل، أو تعليم ماكس وليو (8 و5 أعوام) الإنكليزية، أو النوم طويلاً، أحياناً في مغطس الحمّام، هرباً من ضجيج الطفلين وإزعاجهما. حتّى حجم معاناتها، وقلقها على طفليها المتروكين بمفردهما، وما تتحمّله بسبب الوفاة الغامضة لزوجها الشرطي في المكسيك، لا يتوقف صمويل كيشي عنده كثيراً؛ وإنْ كان للحضور القوي للوسيا، بشخصيتها الصلبة وملامح وجهها المعبّرة بصدق عن عمق مأساتها، أثره البالغ في مَشاهد عدّة.
"الذئاب لا تبكي. تعضّ وتعوي وتحمي منازلها"، تقول لوسيا لطفليها، بعد أنْ تسجّل لهما بصوتها قوانين عدّة يجب عليهما اتباعها وعدم الخروج عليها، إنْ أرادا فعلاً تحقيق حلمهما بالذهاب إلى "ديزني": عدم التشاجر والخروج من المنزل، المحافظة على نظافته، إلخ. يحاول الطفلان التزام تلك القواعد قدر المستطاع. في البداية، تصير الشقة الصغيرة، الممنوع عليهما مغادرتها، عالمهما، وتصبح جدرانها حدود هذا العالم، وشاشة عرض لمغامراتهما الخيالية البريئة، المتسرّب إليها قسوة واقع لا يمكن إغفاله. مع الوقت، ونظراً إلى مُغريات كثيرة، أوّلها غياب الرقابة، يخرق ماكس وليو المحظور: شجار بسيط، تزيين الجدران والورق برسومات "ذئاب النينجا"، محاولة التواصل مع الخارج عبر النافذة الموصدة. ثم الرغبة المُتجدّدة في استشكاف الخارج، والاستجابة لنداءات الأطفال بالانضمام إليهم واللعب معهم في الباحة.
أخيراً، هناك الخروج من أسر الشقّة الصغيرة عارية الأثاث، والفارغة من كلّ ترفيه، والباعثة على الملل. خروج يترتب عليه مواقف غير سارة لهما، ولأمّهما لاحقاً، كغلق باب الشقّة دونهما، وسرقة مدخرات والدتيهما. لكنّ للخروج إيجابيات أيضاً، كأيّ تجربة حياتية: تعرّفهما إلى الزوجين تشان (جونسون تي لاو وسي لاو)، مالكي العقار، اللذين يتعاملان معهما بلطف وحنو، ويطعمانهما ويعطفان عليهما. يتّسم "الذئاب"، الذي يعتمد في أجزاء كثيرة منه على السيرة الذاتية لصمويل كيشي، بحزن وواقعية قاسية، لكنّه مفعم بالأمل والحياة والصدق. مفردات أجاد المخرج التعبير عنها بأمانة، من دون افتعال أو ابتزاز لعواطف المُشاهد؛ وبتوليفٍ فنيّ جمع التصوير الواقعي بالرسوم المتحركة الملوّنة ثنائية الأبعاد، بالإضافة إلى لقطات شبه تسجيلية، بين حين وآخر، لشخصيات مكسيكية الأصل (بينها أبطال الفيلم الثلاثة) تُحدّق بالكاميرا مباشرة، ومنحها حرية مطلقة في التعبير بوجوهها عمّا يعتمل داخلها.
في "الذئاب"، جهدٌ ملحوظ لدور المونتاج (يوردي كابو وكارلوس اسبينوزا وصمويل كيشي) في الحفاظ على الإيقاع، وتكثيف الانتقالات السريعة بين أحجام اللقطات، إذْ تطلّب رصد حركة الطفلين ونشاطهما وعنفوانهما تصويرهما بأحجامٍ مختلفة، مقرّبة ومتوسّطة وبعيدة.