تفاصيل مرعبة وقاسية تختفي وراء الصورة الكلية لمعاناة النازحين من مناطق الصراع في العراق، الفئات الضعيفة من النازحين مثل كبار السن والعوائل الفقيرة والطلاب والأطفال النازحين هم أكثر مَن يدفع الثمن.
"كتب علينا النزوح، منذ عام 2003 الذي كان الأول في اختبار النزوح بسبب الاحتلال الأميركي ثم في 2006 بعد تصاعد المواجهات الطائفية، واليوم دخلنا في الشتات الثالث"، يقول أبو إيهاب ـ نازح من المقدادية ـ وهو يقف أمام خيمته التي أصبحت مأواه الجديد.
حالة أبو إيهاب تشاركه فيها 700 عائلة نزحت من مناطق النزاع في ديالى، لا سيما قضاء المقدادية، واطراف بعقوبة وناحيتي جلولاء والسعيدية إلى مدن كردستان والقرى القريبة منها، بحسب منظمات محلية ناشطة في مجال الإغاثة في كردستان.
صعوبة عملية النزوح فاقمها عدم تمكن معظم العائلات من نقل حاجياتهم الأساسية من ملابس وطعام وحليب الأطفال، والاغراض الشخصية الخفيفة.
يقول أبو إيهاب: "اضطررنا إلى استغلال فتح الطرق الخارجية للمدينة، وهربنا مسرعين فقط بملابسنا وأوراقنا، حتى أننا اضطررنا لترك الطعام، ولا نقدر على شراء ما نحتاج من الأغراض بسبب ضيق الحال".
وتشارك عائلة أبو نور عائلة أبو إيهاب معاناتها بعدما نزحت إلى قضاء "كلار" الكردي لكنها تعتبر نفسها أوفر حظاً من مئات العائلات العالقة التي تنتظر السماح لها بالدخول إلى كردستان في ظل الإجراءات المشددة التي تتخذها سلطات الاقليم خوفاً من تسلل المسلحين، بالإضافة إلى ازدياد أعداد العائلات النازحة التي تضاف إلى سابقاتها المهجرة والموجودة سابقاً في قضاء "كلار"، منذ بدء الشتات الأول لنازحي ديالى عام 2003.
يروي أبو نور تجربته المؤلمة في النزوح قائلاً: "وقفت مع المئات من العائلات منذ بداية النهار حتى ساعات متأخرة من نهار ذلك اليوم الذي سمحت لنا فيه سلطات كردستان بالدخول بينما لم يسمح لعوائل أخرى في ظل تغيّر التعليمات الواردة إلى السيطرة (الحاجز) المتواجد أمامنا".
"بعدما اجتزنا "السيطرة"، لم نعرف إلى أين نذهب، فليس لنا أقارب بعكس آخرين لديهم أقارب مهجرين سابقين في "كلار"، وليس لدينا أمتعة، فقد خرجنا بملابسنا ولم نحمل معنا غير بعض المال، ما جعلنا نبيت ليلتنا في العراء حتى أشرقت شمس الصباح وجاءتنا إحدى العائلات الكردية التي استضافتنا، حتى نجد مأوى"، أضاف أبو نور.
رحلة عائلة أبو سليمان مرت بطريق "امام ويس" مروراً بنقطة "لكباشي" التي كانت تحت سيطرة الجيش العراقي الذي منع مرور العائلات بسبب القتال الواقع في السيعدية وما جاورها، حيث اضطرت العائلة إلى أن تسلك طريق "النفط خانة" الذي يعد الطريق الوحيد المفتوح حالياً بين ديالى ومناطق كردستان المجاوره لها.
"الطريق ضاعف علينا الوقت حيث وصلنا إلى مدينة خانقين بعد 5 ساعات بدلاً من ساعتين، وها نحن الآن نعيش في خيم صغيرة في ظل ارتفاع درجات الحرارة التي لا ترحم"، يقول أبو سليمان متنهداً: "تتعاطف معنا العائلات وتتصدّق علينا بعض المنظمات بعدما تركنا كل شيء، بيوتنا وأثاثنا ومزارعنا ومواشينا".
معاناة الطلبة النازحين
بشار وعمر وسهى وابتسام وآيات، نماذج لعدد من الطلبة الذين نزحوا برفقة عوائلهم ولم ينهوا صفوفهم الدراسية، كما هو حال بعض طلاب وطالبات كليات جامعة ديالى ممّن لم ينهوا امتحاناتهم بعد.
"بقيت لي 4 امتحانات أريد أن أنتهي منها حتى لا تضيع السنة الدراسية عليّ"، يقول بشار، وهو طالب في الصف الثالث متوسط، متسائلاً: "لماذا عليّ أن أنتظر دون معرفة مصير عامي الدراسي ولا ماذا سيحدث لي وهل سأعيد السنة الدراسية؟ حقاً لا أريد".
أما سهى، التي سبقت دموعها حديثها معنا، فقالت لـ"العربي الجديد": "حين وصلت إلى مرحلة السادس إعدادي، شعرت بفرح شديد، فما هي إلا أشهر وينتهي بي المطاف في الكلية التي أحب، أما الآن فنحن في منتصف الامتحانات، إذ بدّد النزوح حلمي كما بدّد أحلام كثيرين لم يتمكنوا من أداء الامتحان من الذين لم ينزحوا بسبب الظروف الأمنية السيئة".
جانب آخر من معاناة الطلبة النازحين يتمثّل في تغيير التعليمات التي تصدرها الجهات المختصة بشأن امتحانات الطلبة، الأمر الذي يترافق مع شائعات يتناقلها الطلبة أنفسهم بعد سماعها من مصادر مختلفة بتأجيل أو تغيير مكان امتحاناتهم.
"معاناتنا مركّبة، فليس هناك وسيلة إعلام يمكن الاعتماد عليها لنعرف وضعنا أو ما تم تأجيله أو الغاؤه"، يقول عمر، وهو طالب بكلية التربية في جامعة ديالى، نزح مع عائلته ولم يستطع إتمام بقية دروسه، مضيفاً لــ"العربي الجديد": "هذا يتحدث عن تأجيل ما تبقى من الامتحانات وذاك ينفي، وبين هذا وذاك تزداد حيرتنا".
وتساءل عمر حول كيفية معرفة الحقيقة في ظل وسائل إعلام مسيّسة، فالرسمية منها تريد أن تبدي الوضع طبيعياً، ووسائل الاعلام غير الرسمية منشغلة بما تراه أهم من وجهة نظرها.
هكذا حال ابتسام وآيات وغيرهن كثيرين تركوا كل شيء خلفهم ونزحوا مع عوائلهم دون أن يتمكنوا من الانتهاء من امتحاناتهم النهائية، ما دفع العائلات النازحة الى مناشدة المعنيين في إقليم كردستان العراق بالسماح لأبنائهم بأداء الامتحانات خاصة الذين يحملون بطاقاتهم الامتحانية.
كبار السن لهم حكاياتهم
على مشارف السبعين من العمر، تقف الحاجة أم نجم، وهي إحدى النازحات من ديالى، توسلت إلى أبنائها أن يتركوها تلقى مصيرها في بيتها حيث لم يعد في العمر الكثير، كما تقول أم نجم، "بل لم يعد جسدي يقوى على كل هذا التعب والحزن معاً، وأنا على مشارف الـ70 عاماً، بدلاً من أن أكون معززة مكرّمة في بيتي، أنا أثقل على أبنائي في رحلة نزوحهم وأعاني من أمراض عدة أولها آلام المفاصل وليس آخرها السكري".
أكثر ما يشغل بال أبناء أم نجم أنها لم تتمكن من إحضار دوائها بعدما خرج أبناؤها وعوائلهم مسرعين.
"يا ألله كم أتمنى الموت على ذلّ ما نحن فيه، لكنني أتجلّد بالصبر كي لا يجزع أبنائي، فقد يطول نزوحنا وقد لا نعود"، هكذا اختتمت أم نجم حديثها باكية.
للمرة الأولى يمر الحاج أبو نجم بتجربة النزوح التي اختبرها في الــ 75 من عمره بعدما مرت عليه الكثير من الاحداث.
"أشعر أنني أعيش في كابوس، ولأول مرة أستشعر كارثة الانسان النازح بعدما كنت أسمع، فقط، حكايات من أقرباء لي هجروا ونزحوا في أحداث العراق منذ عام 2003"، يقول أبو نجم، ويستطرد: "اضطررنا لاستئجار اكثر من سيارة ودفعنا مبالغ أكثر حتى نصل إلى مدينة آمنة. كنت متعباً جداً في الطريق، فأنا أعاني من أمراض القلب، وكاد العطش أن يقتلنا فلم نجد محلاً نشتري منه الماء بعدما نفد ماؤنا".
وتابع: "الجميع كان يخاف من تدهور صحتي أكثر وأكثر. لحظات كثيرة في الطريق شعرت أنها نهايتي وتمنيت الموت لأدفن في المدينة التي أحببت".
أطفال نازحون
ويقتسم الاطفال النازحون معاناتهم مع عائلاتهم بعدما مروا بتجارب مريرة، فأحمد ذو العشرة أعوام، اضطر للمشي مسافات طويلة خلال نزوحه مع عائلته.
"مشيت ومشيت حتى تعبت قدماي، وكانت أمي تضربني حتى أسرع في المشي خوفاً من أن تقع قذيفة علينا حين مررنا بطريق فيه اشتباكات"، يقول أحمد.
أما أم مصطفى، فتروي معاناتها مع ابنها البالغ من العمر 3 أعوام، إذ يعاني من التهاب معوي وإسهال شديد ترافق مع نفاد الماء داخل خيمتهم.
"ليس لدينا علاج، بل ليس لدي ما يكفي من الحفاضات لطفلي المريض، وضع ابني زاد سوءاً بعد ارتفاع درجات الحرارة في ظل انعدام أبسط مقومات الحياة"، تقول أم مصطفى.
الوضع السابق دفع صلاح الجبوري، المتطوع في منظمة الحياة للإغاثة والتنمية، الى جمع معلومات حول أوضاع النازحين من ديالى وغيرها من المحافظات لتقديم مساعدات إليهم بما يعينهم على تخطي المرحلة، خاصة أنهم مقبلون على شهر رمضان.
"نعرف تحضيرات العائلة العراقية لشهر رمضان، وقد تطول فترة نزوحهم نظراً لاستمرار سوء الوضع الأمني في ديالى، حيث من المحتمل تقديم المساعدات العينية من مواد غذائية وبعض المستلزمات الصحية لـ200 عائلة نازحة ومهجَّرة في وقت سابق"، قال الجبوري.
ويحدد الناشط والصحافي، ماجد أصغر، أهم ما يحتاجه النازحون في الخيم الصغيرة العائلية: مياه الشرب، حليب الأطفال، حفاضات الأطفال، مراوح، حمامات جاهزة، وهو ما تعمل المنظمات الانسانية، وبعض الخيِّرين، على توفيره لمساعدة النازحين والتخفيف من معاناتهم.
أصغر، قال لـ"العربي الجديد": أعداد النازحين كبيرة، وخلال أيام قليلة مضت وصلت نحو 450 عائلة إلى قضاء خانقين والقرى المجاورة له فضلاً عن أعداد مماثلة وصلت إلى قضاء "كلار" وغيرها من مدن كردستان العراق، حيث قام مكتب المنظمات الديمقراطية (ناوند خانقين) بالتنسيق مع ممثل مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ومنظمة السلام الإنسانية بإقامة مخيم في إحدى القاعات الكبيرة في قرية (بهار تازه) لاستقبال وتسجيل العائلات الوافدة وتوفير الخيام لمحاولة التخفيف عنهم.