تحاول الرواية الجديدة للكاتب والفنان التشكيلي المغربي ماحي بينبين (1959) "درب العفو" (منشورات "ستوك"، بالفرنسية، 2019) ردّ الاعتبار لشخصية الشيخة، تلك المرأة التي تعلّم الرقص والغناء واحترافهما، وقد شبّهها المؤلّف بـ"الجيشة اليابانية"، قاطعاً مع العادة في الثقافة العربية؛ إذ تُعتبر "الشيخة" وريثة شخصية "القَيْنة" بما يحمله ذلك من ضمنيّات وأحكام مسبقة.
كما في معظم أعماله، ينقلنا إلى عوالم البسطاء والمقهورين، ويحاول أن يمرّر لنا ما يعتمل في صدور ورؤوس المنبوذين ومن يعيشون البؤس بأشكاله المتنوّعة. تذهب بنا الرواية إلى "درب العفو" أو "شارع الغفران" في مدينة مراكش، غير أن الجزء الذي تتحرّك فيه الأحداث ليس ذلك المعروف في الصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية، حيث اختار المؤلّف أن يضيء الأماكن التي لا يصلها السيّاح في المدينة الحمراء.
تتناول "درب العفو" حياة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، تعاني من قسوة واعتداء محيطها الأسري، وهو ما يضطرّها للهرب من بيتها بمساعدة الشيخة "ماماتي"، التي لم تحتمل ما تتعرّض إليه الفتاة من اعتداء والدها المتكرّر عليها وصمت أمّها أمام ألمها. من خلال هذه الحبكة، يفتح المؤلف كوّة يطلّ منها القارئ على عالم الشيخات، بعيداً عن الصورة المكرّسة حولهنّ.
وكما في لوحاته التي تنهمك في تفكيك "الجسد" وإعادة بنائه في حلّة أخرى، تأتي هذه الرواية لتسائل أهمية الأجساد التي تحمل أرواحنا. استفاد بينبين من معرفته التشكيلية في رسم بعض الوجوه في النص، إذ يأخذ بتفاصيل الأعين الغائرة، أو الفم الذي يبدو كهوّة سحيقة تشير إلى سوداوية الحياة أو مَعبراً لعالم آخر.
يمسك بينبين بأيدينا ويقودنا إلى عالم الشيخة. هذه الشخصية التي تصنع الفرح والبهجة وهي تغنّي "النشاط ها هو شاط" (الطرب اشتعل وأحرق)، فتلعب بالأجساد كما تريد، وتحرّر الناس من قيود الأعراف والتقاليد ولو لزمن قصير. غير أن نفس هذه الشخصية التي توضع في مقام التبجيل خلال المناسبات، تصبح في الأيام العادية مكروهة ومنبوذة من الصغير والكبير، من المرأة والرجل.
يضيء المؤلّف كيف تصارع الشيخة صعوبات الحياة ومفارقاتها. يفعل ذلك وهو يدقّق في علاقة الشيخة بالنساء، حين تصبح وقت العرس أو السهرة سيّدة المكان، ومن ثم تخلق متنفّساً للنساء المقموعات من قِبل الذكور، واللاتي يرقصن خلال السهرة على إيقاع غنائها ودقِّها "البندير" أو "التعريجة" وغيرها من الآلات الموسيقية.
وعلى صعيد آخر، تكون الشيخة متنفّساً لمكبوتات الرجال وهم يشربون نبيذاً رديئاً في أكواب الشاي، يصبّونه من قنينة "بلاستيك" مخبّأة داخل "الجلابة". يرصد بينبين هؤلاء وهم يتتبّعون حركات الشيخة بنظرة شهوانيّة، وكثيراً ما توحي بعالم لا يعرفه هذا الزوج أو ذاك، والمفارقة أنه لو وجده في زوجته لطلّقها "بالثلاث".
بعد سنوات من إحياء الأعراس والسهرات، وحين تفقد الشيخة كلّ جمالها وطاقتها، عادة ما تحج إلى مكّة، لتصبح الحاجّة فلانة. لكن هيهات، فالمجتمع لا ينسى. ولا يفوت المؤلّفَ هنا أن يشير إلى أن الرجال يقلبون دلالة كلمة "حاجّة" فيُستعمل لنعت الفتاة سهلة المنال أو تلك التي تبيع جسدها.
هذا التفكيك اللغوي يَظهر أيضاً على مستوى آخر؛ ففي نفس المجتمع يكاد يرتبط توصيف الشيخة بالعهر والابتذال الأخلاقي، في الوقت الذي تدلّ فيه نفس الكلمة في صيغتها المذكّرة، شيخ، على شخص عارف بالله وأستاذ حاذق في العلوم الدينية، وفي ذلك دليلٌ على النفاق الاجتماعي، الذي تأتي الرواية لتعرّيه مع سلوكات كثيرة أخرى مثل سوء الظن وقصر النظر والكيل بمكيالين.
العنوان كان هو الآخر حاملاً لهذا الاجتهاد في تفكيك ما وراء الكلمات، فـ"العفو" في المخيّلة المغربية لا يقتصر على المعنى المعجمي، إذ يحيل أيضاً على عبارة دارجة يقال فيها عند رؤية مشهد "غير أخلاقي"، غالباً فتاة بـ "التنورة"، "لعفو يا مولانا" أي "الله يسترنا ويعفو عن هذا الإنسان"، ومن ثم أصبحت الكلمة قدحية محضة.
هكذا تتقصّى "درب العفو" ظواهر اجتماعية مسكوتاً عنها إلى حدّ كبير، كنوع من التشخيص لأمراض النفوس والعقول في مجتمعاتنا. وبذلك فإن الرواية تعكس، قبل كل شيء، البشاعة التي تحوّلت إلى واقع اجتماعي معمّم، إضافة إلى كونها رد اعتبار لشخصية الشيخة، ومن وراء ذلك تغنٍّ بالأنوثة؛ إذ يغوص المؤلف في واقع النساء وتنوّع ظروفهنّ من الأحياء الفقيرة في المدن إلى البادية، وتظهر في العمل الدكالية والمزابية والمزمازية والعبدية والحوزية والملالية والفيلالية وبنت "واد زم"، ولكل واحدة نمطها في الحياة وفي الرقص، فهذه ترفس أو "ترْكز" بقدميها بقوّة غير عادية، وكأنها تدوس وجه مجتمع مخيف، وتلك يشتد بها الرقص مع تسارع إيقاع الموسيقى، فتنزع منديلها و"تطلق" شعرها و"تتحيّر"، إلى أن تسقط فوق الزربية غائبة عن الوعي.
وإذا كانت الحكاية التي يسردها ماحي بينبين درامية ومأسوية إلى حد ما، إذ إن الفتاة التي تخرج إلى هذا العالم من الأحياء الفقيرة لا أمل لها في أي مجد رغم موهبتها، فإن ذلك ليس حتمية؛ فهناك من شيخات العيطة من حقّقن نجاحاً معترفاً به؛ مثل: لطيفة آمال، والحاجة الحمداوية، وفاطنة بنت الحسين، والشيخة الزروقية (ذات العينين الزرقاوين)، وهنّ نساء فرضن فنّهن وشخصياتهن القوية وحُزن الشهرة والنجاح.
على المستوى الأسلوبي، فإن الرواية مكتوبة بلغة شعرية تختلف عن تلك التي اعتمدها بينبين في رواياته السابقة؛ مثل "نجوم سيدي مومن" و"مؤنس الملك" التي أخذت صبغة سير ذاتية، وفيها يشير إلى أن والده كان مهرّجاً للملك الحسن الثاني، وكان أخوه عزيز، صاحب رواية "تازمامرت"، من بين منظّمي انقلاب 1973 ضد الملك نفسه، وتم تعذيبه واعتقاله بسجن تازمامرت، لينجو منه بأعجوبة بعد ثماني عشرة سنة.